رقية نبيل
كنت في الحادية عشرة من عمري، وكان شقيقاي عبد الرحمن وسلمى يصغرانني بعام وعامين حين اكتشف ثلاثتنا عالم الأنمي الساحر، لم تكن نعرف عنه قبل ذاك إلا ما تنقله لنا قناة شباب المستقبل «سبيستون»، وبقدر ما أغرمنا بأكثر من مسلسل كارتوني يبث عليها بقدر ما كانت دهشتنا يوم اكتشفنا مدى اتساع عالم الأنمي الياباني، بدت «سبيستون» وقتها نقطة في خضم بحر زاخر لا ساحل له، أذكر يوم سمعت صوت كونان ينطق باليابانية لأول مرة خطر لي أن صوته ثخين، أثخن نبرة مما يجب أن يكون عليه صوت طفل في السابعة، لكن أذهلني الأداء الصوتي في الوقت ذاته، لقد كان شديد الإتقان وكأن صاحب الصوت يتألم بحق ويندهش بحق ويغرم بحق ويخشى حين يخشى كونان بحق!
لم يمض وقت طويل حتى كنا غرقنا في هذا البحر القادم من اليابان، وأمضينا ليالي طوال نلتهم سلاسل وراء سلاسل، لم نكن وحدنا بالطبع فقد شاركنا العالم العربي كله تقريبًا الاكتشاف ذاته وحالة الاستغراق التامة ذاتها، اليوم لا يُخفى عالم الأنمي على أيهم، الكل يعرفه الكل يحفظه الكل يألفه والكل يتحدث عنه، والتقارير التي تُعد عن الأنميات أمطرت من كل مكان، والآراء والتعقيبات والتجمهر إثر كل حلقة تصدر لأنمي شهير صارت أمرًا عاديًا جدًا.
كان أبي حفظه الله ورعاه لا يعجبه هذا الوضع، أذكر أنه كان يقتحم علينا فجأة في وكرنا المظلم، أي الغرفة المطفأة أنوارها إلا من نور جهاز الكمبيوتر الذي يعرض حلقة جديدة لأنمي ما، كان حفظه الله يطرق مستأذنًا ثم يدخل، لكن طرقته كانت تصيبنا بالفزع، فنحن نعلم يقينًا أنه لن يعجبه ما نشاهده،كان ناروتو بذيوله السبع وشخصياته التي تغضب وتتحول وتقهقه وتطلق نكات لا يفهمها إلا من يفهم الأنمي،كل هذا كان عالما عصيا على والدي استيعابه، وفي كثير من الأحيان كان يشاهد لقطة لقتال أو شخصيات ذوات قوة خارقة فيغضب لهذا، كان يغضب لأنه يرانا نمضي وقت فراغنا كله حتى آخر دقيقة منه وأول لحظة عند استيقاظنا متربصين بشاشة الجهاز تكاد أعيننا لا تتحول عنها لجزء من الثانية حتى، مأسورين تمامًا لساعات طوال، لا نكل ولا نمل، حلقة بعد حلقة وموسم إثر موسم ومسلسل يليه مسلسل! وهكذا تمضي ليالي الإجازة الصيفية إلى أن تنتهي .
أعترف أنه قبل الأنمي كانت هناك أفلام ديزني وبيكسار ولكنني لن أنكر أنها لم تكن تسحرنا بهذه الطريقة، وكانت الأسرة كلها تقريبًا تجتمع حولها، وهناك صباحات أعياد مرتبطة عندي بأفلام بعينها، لا أكاد أطالع مشهدًا منها حتى أتنفس صبح العيد وأشعر بشمس الصباح تمس بشرتي إثر عودتنا من الصلاة وأكاد أسمع صخب اجتماعنا سوية حول الفيلم وفي يدنا بسكويت العيد والمعمول والكحك الذي يحمل رائحة أمي حفظها الله، بينما أكواب الشاي باللبن مرصوصة أمامنا، مثل فيلم هرقل وحكاية لعبة الجزء الثاني.
بيد أن عالم الأنمي كان خاصًا جدًا، تفهمه وتفضله مجموعة محدودة منا للغاية، وأذكر أننا كنا لا نفترق ولا نبدأ بتشغيل حلقة أبدًا في غياب أحدنا، وهي قاعدة مهمة جدًا لأنها انتهاكها يعني إعادة تشغيل سلسلة حلقات والاضطرار للصبر وقت طويل حتى انتهاء الفرد الذي تغيب عنا منها!
واليوم تطور الأنمي لأبعد حد، ولن أتطرق هنا للأنميات التي للأسف صارت منتشرة حتى بين أطفالنا والمصنفة على أنها «عروض منحرفة»، ولكني أقر أن عالم الأنمي جذاب جدًا،وأن القصص المعروضة اليوم تجمع بين الخيال والواقع بشكل ساحر ومؤثر للغاية، والشخصيات لطول مكوثها معك ولجاذبيتها فإن الملايين صارت شديدة التعلق بها، وظهرت المانجا في وطننا العربي من كل مكان، وصارت فنًا يُحتذى به في حد ذاتها، وانبثقت البوسترات والصور والتعليقات والميداليات التي تحمل شخصيات أنمية شهيرة في كل المحال ولدى كل المعارض، يرافقها أيضًا فن الكوميكس الأمريكي الذي أفضله شخصيًا عن المانجا بكثير.
كان أبي محقًا، أقولها اليوم وقلبي يعتصره الألم لمدى السخط الذي كنت أحس به وقتذاك عندما يحثنا والدي على الابتعاد عن الأنمي ومحاولة تزجية وقت فراغنا بشيء نافع ولو قليلا، أبي كان محقًا فمشاهد العري في الأنمي لا تطاق، وتقليد الذات الإلهية والتعدي عليها لا حدود له، وخليط من أفكار لا تليق بنا نحن بني الإسلام والعروبة معجونة في كل لقطة وكل أنمي وكل حلقة، ومن يدمن مشاهدتها يدمن مشاهدة كل ذاك، وتصبح المنهيات أمورًا عادية جدًا عنده لا يرى فيها بأسًا ولا يتحرج من ذكرها علنًا!
أبي كان محقًا فمن أعد هذه المواد اليابانية لم يراع فيها خلقًا أو دينًا أو عمرًا، أبي كان محقًا هناك حقًا فكرة خبيثة تترصد لنا خلف كل ما يعرضونه وهناك هجوم خفي وانحلال خلقي يُراد بنا مدسوس وسط كل هذا السحر الخلاب الملون، وديزني اليوم تكشف عن وجهها القبيح وتدعو أطفال العالم للمشاركة بالاحتفاء بالمخنثين والمخنثات حول العالم وتقبلهم بل والاحتذاء بهم!
اليوم أجدني أتقمص أبي وأراقب بعناية كل ما تشاهده طفلتي ذات الأعوام الستة، ولأول مرة ألقاني أكره حتى أفلام ديزني الكلاسيكية القديمة، فمن ذا الذي يقدم مشاهد القبلات الحميمة والأحضان وكأنها الشيء الأكثر عادية وجمالًا في هذا العالم؟!! وما الذي يدعوني أنا المسلمة لأسلم ابنتي فيلمًا يسيء لديني كعلاء الدين ويصورنا ثلة من اللصوص الهمجيين المتخلفين عن ركب الحضارة، نحن!! وهم الذين قضوا على حضارة بأكملها كانت قائمة في سهول وروابي أمريكا وأبادوها عن بكرة أبيها ليقيموا حضارتهم الرشيدة الإنسانية للغاية.
أبي حفظه الله وبارك لنا فيه كان محقًا، دومًا محقًا، راقبوا أطفالكم فيما يشاهدونه سواء كان عالم الكوميكس أو الأنمي أو ديزني واقضوا معهم أوقات فراغهم ما استطعتم إلى ذلكم سبيلا.