ليلى أمين السيف
عندما قال الشافعي»سافر ففي السفر خمس فوائد» أراه قد صدق.. فلولا اختلاطنا بالآخرين والتعرف إليهم عن كثب لصدقنا الروايات وربما بالغنا في رسم صور الآخرين سلباً أو إيجاباً.. فكل يرى الناس بعينه هو.. بعين نفسه.. بعين طبعه..
عندما كنت أدرس قبل سنتين مادة اللغة السويدية كانت هناك مادة في التعبير كان الكل يكرهها حيث كانوا يعطوننا مواضيع ما أنزل الله بها من سلطان.. وأتذكر الموضوع الذي كان عبارة عن نص جدلي عن دار العجزة هل أنت مع أو ضد ولماذا؟ ائتِ بالحجج وادحض الرأي الآخر.. وقتها كان أمثالي من القادمين الجدد يقولون لا تماماً وبدون نقاش. ثم نعطي أسبابنا..
الآن بعد أن اشتغلت عندهم أجدني بدأت أغيّر رأيي وأعلم أن الكثير قد لا يفهم ما أعنيه والآخر سيكابر.. عموماً سأشرح لكم لاحقاً ما رأيته..
لنكن واقعيين في بيئتنا العربية والشرقية بشكل عام هل جميع الأبناء بارون بوالديهم؟ هل جميع الأبناء في العائلة الواحدة يقومون بواجبهم كما ينبغي تجاه والديهم؟.. سنجد دوماً أحد الأبناء الذي رضي الله عنه وأرضاه قد تكفل بواجبه تجاه والديه ونجد أن الآخرين يتمادون وينصرفون عن المؤازرة والمساعدة حتى ولو بتطييب الخاطر ورفع الهمة والبعض من شدة وقاحته يحمل ذاك الابن كامل المسؤولية وينصرفون تماماً حتى عن أقل الإيمان وهو السؤال فقط..
هناك من الأبناء من يسكن بعيداً بحكم ظروف عمله فهذا عليه واجب التواصل وإن كان مقتدراً عليه كذلك العطاء لوالديه ولمن يقوم على خدمتهم من الإخوة إن كان معسراً..وهناك من الأبناء من هو قريبٌ لكنه معسرٌ فهذا عليه العناية بوالديه وهكذا تتوزع المسؤوليات على الأبناء بكل حب ومراعاة لمصالح بعضهم بعضاً ولم أرَ مثل هذا إلا نادراً..
يقال إن أردت أن تشيخ وتتقاعد وأن تحفظ لأبنائك حقوقهم فعليك بالسويد أو الدول الاسكندنافية فهناك لك حقوقٌ لا تتعنى حين تطلبها بل تأتيك طواعية..
رأيت الأحفاد يتكبدون مشاق السفر من مدن بعيدة وحتى دول الجوار ويأتون لزيارة أجدادهم مع أحفاد الأحفاد..رأيتهم يهتمون بوالديهم في الأعياد يجتمعون معهم يأتي الفرد مصحوباً بشريكه مع أبنائه وأحفاده أيضاً للسلام على والده أو والدته.. ويأخذه/ها في جولة حول المدينة أو لمكان ما أو يأخذونهم لمنازلهم إن كانت قريبة في ذات المدينة..
مواعيد الوالدين في المستشفيات تكون إما مصحوبة بأحد الأبناء أو بـ«Good man» وهو الشخص القيّم فهو موظف من الدولة براتب بحيث تكون مسؤوليته شراء المستلزمات الشخصية«من الراتب التقاعدي»وشراء ملابس أو طعامٍ محببٍ للنزيل والذهاب معه في مواعيده للمستشفى إن كان الأبناء لا يستطيعون ذلك. كل دار عجزة بجانبها مستوصف ودار حضانة..
ويقيم بدار العجزة ممرضات مؤهلات تأهيلاً عالياً ومتخصصات بأمراض الشيخوخة وتتم الإحالة للمستوصف أو للمشفى حسب الحالة.. هناك خدمات العناية بالشعر وصبغه وقصه والعناية بالقدمين وما لا تتخيلونه..
تنظيف الشقق وتحضير الطعام وغسل الملابس وكيها والعناية الشخصية والطبية بالنزيل من علاج وغيره من الروتين اليومي يقدم للنزيل يومياً..
سألت النزلاء لماذا أنتم هنا.. لماذا لا يعتني بكم أبناؤكم؟
ردودهم علمتني أن هناك ثقافات ومفاهيم في العالم تختلف عما تعلمناه وألفناه.. الأبناء ينفصلون عن والديهم بشكل مبكر ويقومون بشؤون حياتهم بأنفسهم.. نظام «نحن» العربي يقابله نظام «أنا» السويدي.
ينشأ السويدي على الاهتمام بنفسه لوحده وتلبية طلباته تلك هي شأنه وحده فهو المسؤول عن تحصيله العلمي وعن معيشته. فكل ما نفعله لأبنائنا لا يفعلونه هم ومع ذاك فأبناؤهم يشعرون بمسؤوليتهم تجاه والديهم.. زميلتي في العمل عمرها عشرون عاماً تعمل 50 % وتدرس 50 % واشترت منزلاً بسيطاً لكنها لم ترمِ والديها بالعجز عن العناية بهما.
قالت لي تلك العجوز الإيطالية حين سألتها عن أبنائها قالت أبنائي يقيمون في مدن بعيدة ولقد عشت مع ابنتي هنا في يونشوبنغ خمس سنوات وانتقلت ابنتي الآن لاستوكهولم وأنا لا أستطيع الانتقال معها كما أنني أحتاج لعناية يومية ولكنني أرى ابنتها تأتيها كلما استطاعت وتقوم بواجبها وهي طبيبة والأم تعشق الزهور وكل أسبوعين تمتلئ الشقة بالزهور غالية الثمن والجميلة والمبهجة.. تلك العجوز التي فاقت التسعين وتشكو من الزهايمر يأتيها الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد والجيران والأصحاب مصحوبين بالزهور والحلويات والملابس ويذهبون في جولات حول المدينة ثم يعيدونها وهي لا تذكرهم. العجزة في دار العجزة مرتاحون لا أحد يمن عليهم أنه يقوم على خدمتهم كما أنهم يتناولون الوجبات مع زملائهم وتتم العناية بهم وتسليتهم والقيام على خدمتهم بكل حب وأريحية..
في النهاية أنا أقصد هنا أنه يجب أن لا يهان كبير السن ولا يتسول أبناءه أو أزواج وزوجات أبنائه للعناية به فكرامته محفوظة وحتى إن أقام معهم فكرامته أيضاً محفوظة وإن تخلوا عن مسؤوليتهم عنه فإن الدولة تتكفل به وتحفظ كرامته التي وأدها أبناؤه.
جيراني يملكون بيوتاً كبيرة ومقيمون بها وأيضاً يأتي أبناؤهم لزيارتهم ولكن الدولة تهتم بعنايتهم فهناك المرافق أو المساعد الشخصي أو من يأتي لخدمتهم في المنزل أو لإعطائهم أدويتهم والترفيه عنهم والأصدقاء هنا أيضاً لهم دورهم وواجبهم.
هؤلاء الغرب الفاجر يؤدون حقوق الوالدين بطريقتهم الغربية..
لا يفهمون معنى عقوق الوالدين وليسوا متدينين وليسوا مثلنا كما يعتقده البعض عنا مترابطين أسرياً ولكنهم يقومون بدورهم على أكمل وجه..
{رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}.
هذه هي ذروة علاقتنا بوالدينا فمن يفقهها.. ثقافتهم تختلف عننا ومع ذلك أراهم يبرون والديهم بطريقتنا.. وديننا كله يحثنا على الرحمة بهما ومع ذلك فلا ديننا يردعنا ولا ثقافتنا تؤدبنا..
ودمتم بكل حب..