عبدالوهاب الفايز
في مقال الأسبوع الماضي وفي سياق الحديث حول التربية والحماية المالية الممتدة للمستهلك، كان المقترح تبنى آلية نوعية هي: تأسيس (صندوق وقفي لكل طالب). وتم طرح المبررات العديدة الداعمة لأهمية الأوقاف كأداة عملية لتنمية (الإبداع المالي) لدى الأطفال حيث تزودهم بالتجارب المالية الواقعية، وتعزز الإدارة المسؤولة عن الأموال. فمن خلال دمج الأوقاف في التجارب التعليمية، يتعلم الأطفال المهارات المالية التي تخدمهم طوال حياتهم.
والتصور المطروح يرى أن الصناديق ممارسة تربوية لإيجاد (المستهلك المالي الرشيد)، فالوعي يتحقق هنا عبر الممارسة والمشاركة، ويوجد رحلة تعلم مفتوحة.. وممتعة، أي ليس عبر الوعظ والتلقين. والأهم: تساعدنا في إحياء شعيرة الوقف التي أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية. وكان السؤال في آخر المقال: من يحمل الراية؟
ربما الأولى بهذا الأمر الوطني هو (برنامج تطوير القطاع المالي)، أحد البرامج التنفيذية لـ(رؤية المملكة 2030). هذا البرنامج يسعى إلى تطوير القطاع ليكون متنوعاً وفاعلاً لدعم نمو الاقتصاد الوطني، وأيضا لحفز الادخار والتمويل والاستثمار، وزيادة كفاءة القطاع المالي لمواجهة ومعالجة التحديات.
ومن بين التوجهات الاستراتيجية للبرنامج هناك المرتكز الذي يهمنا وهو: تعزيز وتمكين التخطيط المالي. لتحقيق هذا المرتكز صُممت عدد من المبادرات مثل: تحفيز ودعم الطلب المستدام على خطط الادخار، والدفع باتجاه التوسع في منتجات الادخار والقنوات المتاحة في السوق، وتحسين منظومة الادخار وتعزيزها، وتعزيز الثقافة المالية.
بالإضافة إلى هذا البرنامج، هناك متطلبات (الشمول المالي) الذي أصبح من الأمور المهمة للدول، وهو من الموضوعات التي تبنتها مجموعة دول العشرين ووضعتها ضمن الأمور الأساسية في أعمالها. في تعريف البنك الدولي، (الشمول المالي يعني أن الأفراد والشركات لديهم إمكانية الوصول إلى منتجات وخدمات مالية مفيدة وبأسعار معقولة تلبي احتياجاتهم - معاملات ومدفوعات ومنتجات ادخار وتسهيلات ائتمانية وقروض وخدمات تأمين، ويتم تقديمها على نحو مسؤول ومستدام).
المؤسسات المالية الدولية والإقليمية تبنت الشمول المالي لأنه أداة تتيح للأفراد فرصاً أفضل لإدارة الأموال بطريقة سليمة وآمنة، ويتيح أمراً مهماً وهو تنمية الفرص للادخار والاستثمار في التعليم والصحة وريادة الأعمال، ويعلم إدارة المخاطر، والتعامل الأزمات المالية. وهو باختصار، للأفراد وللأسرة، آلية تساعد على تنمية وإدارة المدخرات وتجنب التقلبات المالية الطارئة واتخاذ قرارات الاستهلاك والادخار والاستثمار والتخطيط للمستقبل بشكل أفضل، وأيضا يُمكّن من توجيه المدخرات نحو الفرص الاستثمارية بما يساعد على تأسيس المشروعات وخلق المزيد من فرص العمل، وبالتالي زيادة مستويات الدخل وتحقيق النمو الاقتصادي، كما يتيح للجميع التعامل مع المؤسسات المالية الرسمية.
كل هذا التمهيد ضروري حتى نطور القناعة بأهمية استثمار التعليم المبكر ليكون مساهماً أساسياً في ضمان بناء المستهلك المالي الرشيد، وأيضا داعما لتحقيق الشمول المالي. التعليم المبكر يوفر الأساس لمحو الأمية المالية. ويساعد التعليم المبكر في بناء قاعدة معرفية مالية قوية ربما تساعد في اتخاذ قرارات مالية مستنيرة في وقت لاحق من الحياة. أيضا التعليم المبكر الجيد يساعد في التغلب على العوائق التي تحول دون الشمول المالي. وكذلك ومن خلال رعاية التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات منذ سن مبكرة، يمكن للأطفال من جميع الخلفيات تطوير القدرة على التنقل بين الأنظمة المالية والوصول إلى الخدمات التي تعزز الشمول المالي.
فيما يخص الأنماط السلوكية، يمكن للتعليم المبكر أن يؤثر في السلوكيات المالية طويلة المدى. ومن خلال غرس المواقف الإيجابية تجاه الادخار والاستثمار والممارسات المالية المسؤولة في سن مبكرة، من المرجح أن يحمل الأطفال هذه العادات إلى مرحلة البلوغ، مما يسهم في رفاهيتهم المالية وإدماجهم بشكل عام في النظام المالي.
كذلك من خلال التعليم المبكر، يتم تمكين الأطفال من فهم قيمة الاستقلال المالي ليكونوا معدين للمشاركة في صنع القرار المالي، مما يسهم في النهاية في دمجهم اقتصاديًا واستقرارهم في المستقبل. ومن خلال تزويد الأطفال بالمعرفة والمهارات المالية، يمكنهم أن يصبحوا محركات للتغيير داخل أسرهم، ويشاركون فهمهم للمفاهيم المالية ويعززون الإدماج المالي داخل مجتمعاتهم.
طبعا المنافع عديدة ويصعب حصرها هنا، ولكن الذي يهمنا التأكيد عليه هو أن مبادرة إنشاء الصناديق الوقفية للطلاب لها سابقة تبناها الشيخ سليمان بن عبدالمحسن أبانمي، رحمه الله (والراحل لديه مبادرات نوعية مثل الحج عن أجداده وزوجاتهم، فهؤلاء كانوا في ظروف صعبة قبل توحيد بلادنا حيث الفقر وانعدام الأمن). ومبادرة الأسهم نبهني عليها عدد من المختصين بالعمل الخيري الذين اطلعوا على المقال السابق. الشيخ سليمان قدم لجمعية رعاية الأيتام بمنطقة الرياض تبرعا لـ10.000 يتيم ويتيمة، بواقع عشرة أسهم بشركة (ينساب) لكل واحد منهم. وتقدر قيمتها عند طرحها للبيع بـ(50) مليون ريال بواقع (500) ريال للسهم!.
هذه السابقة النوعية هي ما نتحدث عنه الآن، فالصناديق الوقفية يمكن أن تبدأ باسهم الشركات التي يتم طرحها. مثلا تخصص نسبة من الأسهم للصناديق الطلابيه. ربما تكون الأولوية للمسجلين في الضمان الاجتماعي.
وأخيراً نعود للمبادرة الأساسية لهذا الحديث، وهو ضرورة حماية المستهلك المالي من جشع الممارسات التجارية. وهذه، وتتطلب تفعيل وإحياء آليات وضرورة حماية المستهلك. فهذه سوف تظل من الأمور الأساسية التي يجب على الصحافة متابعتها وعدم التغافل عنها أو تجاهلها. ففي سياق الاقتصاديات المفتوحة لآليات السوق تظل حاجة الناس قائمة لوجود الآليات التشريعية والتنفيذية التي تحمي المجتمع من جشع الممارسات التجارية وانفلات الأسواق. في ظل اقتصاديات السوق المفتوحة لكل آليات المنافسة، الحكومات من واجبها الأساسي أن تقوم بدورها الحيوي لحماية مصالح الناس ومصالح الدولة.
وهنا نقدم الشكر للبنك المركزي السعودي (ساما) الذي تحرك لتصحيح سوق القروض الشخصية، وهذه خطوة ضرورية لحماية الناس من ضعفهم، ولحمايتهم من نهم وغريزة القطاع المالي. لعل (ساما) تتبنى صناديق الأوقاف الطلابية، حتى لا تضيع المبادرة في متاهة البيروقراطية العميقة للقطاع العام.