رضا إبراهيم
لم تعد عمليات (المحاكاة) مقتصرة فقط على الوسائل الصناعية، لكنها طالت كافة الشؤون، فجرى استخدامها في العديد من السياقات المهمة التي تخدم البشرية، ويتضمن علم المحاكاة نماذج النظم الطبيعية والإنسانية، لتوسيع المدارك والفهم حول وظائف تلك النظم، والمحاكاة عملية تقليد لشيء ما أو ظرف حقيقي أو عملية واقعية، وتتضمن بصفة عامة بعض الخصائص الأساسية لسلوكيات النظام المادي أو المجرد المعنية به.
بينما المحاكاة الطبية فرع من المحاكاة، يتعلق بالتعليم والتدريب في المجالات الطبية المختلفة، ويمكن إجراء المحاكاة في الصفوف الدراسية في البيئات الظرفية، أو في أماكن جرى تصميمها خصيصاً لممارسة المحاكاة، ويمكن أن تتضمن مجسمات لمرضى بشرايين صناعية أو بشرية أو مزيج منهما، ووثائق تعليمية مع مجسمات مفصلة وتقييم الإصابات في الحفاظ على خدمات الطوارئ، ودعم وظائف الصحة الافتراضية بالمحاكاة
(الهولوغرافية) ثلاثية الأبعاد، لتدريب المهنيين الطبيين، بهدف تقليل الأخطاء أثناء الجراحة وتقديم الوصفات الطبية والممارسة العامة والتدخل في الأزمات، إضافة إلى طرق استخلاص المعلومات.
كما يتم استخدام المحاكاة الطبية في الوقت الحالي، لتدريب طلاب علم التشريح ووظائف الأعضاء والتواصل أثناء الدراسة، والمعلوم أنه مع بروز فعالية التكلفة وقدرة المحاكاة على إجراء التدريب في الاستخدام العسكري المكثف بالسبعينيات، جرى توسيع تكنولوجيا الأجهزة والبرمجيات بشكل كبير، وتم وضع المعايير الطبية، وباتت المحاكاة الطبية ممكنة بالكامل وبأسعار معقولة، على الرغم من أنها ظلت غير موحدة، وغير مقبولة على نطاق واسع من قبل المجتمع الطبي الكبير.
ولقد شهد آخر عقدين من الزمن اهتماماً متزايداً سريعاً، باستخدام المحاكاة الطبية لأغراض تحسين سلامة ورعاية المرضى وبالأخص في أثناء الأزمات، من خلال مجموعة متنوعة من التطبيقات، لذلك يمكن إعادة إنشاء حالات الأزمات وتعقيد أنظمة العمل بمجال الرعاية الصحية في بيئات محاكاة بنفس مستوى الواقعية، التي قد تحدث في بيئة سريرية حقيقية، والفائدة من ذلك تتمثل في أن النشاط يحدث ببيئة محمية، ما قد يسمح بحدوث الأخطاء وتحليلها وانعكاسها، ويستعرض أيضاً سلوك المجموعة وتنفيذ البروتوكولات، ويمكن لتلك الفرق الطبية أن تتخذ قرارات، والاستعداد لمواجهة ظروف العالم الحقيقي، وفي بيئة المحاكاة يصبح الخطأ أيضاً فرصة للتعلم وتحقيق الكفاءات، ما يعني الحد من الحوادث وتقليل النتائج السلبية.
ويُعد التنبؤ بالكيفية التي سينتشر بها المرض وأعداد المصابين، من أهم الأمور بعملية التخطيط، لتحديد المتطلبات اللازمة بمجال الرعاية الصحية، إضافة لتقييم أثر أي إجراء يتم اتخاذه خاصة مع تفاوت استجابة دول العالم حول فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19) وفقا لمدى التقدم التكنولوجي ووفرة المصادر والقوى البشرية، الذي سيحدد بدوره نوع الإجراء الواجب اتخاذه، وخير مثال قيام فريق بحثي متعدد التخصصات في جامعة (خليفة للعلوم والتكنولوجيا) في شهر أبريل من عام 2020م وتحت إشراف الدكتور جورج رودريجز الأستاذ المشارك بالهندسة الكيمائية، بتطوير نموذج يساهم في معرفة أثر فيروس كورونا على الأفراد، الذي يمثل خطوة أولى لصنَّاع القرار، وفي فهم العواقب المترتبة على انتشار ذلك الفيروس.
وقام الفريق البحثي بنشر مقال حول النموذج ونتائجه في نظام الأرشفة الطبية، وهو منصة إلكترونية معنية بأعمال الباحثين لمجال الطب والعلوم الصحية، واعتمد النموذج الذي قدمه أولئك الطلاب الإماراتيون على جمع مجموعة وفيرة من البيانات، مثل انتشار الأمراض المعدية وتوقيت إنهاء العزل، وعدد وحدات العناية المركزة لكل مليون مريض، ومستوى وعي الأفراد بالحماية الشخصية، وعدد المخالطات اليومية مع الأفراد الأصحاء، تبع ذلك قيام النموذج بتعديل النتائج حسب البيانات المدخلة لكل دولة، كما أضاف الطلبة الباحثون بعض الإجراءات على النموذج، لتحديد الطريقة الأكثر فاعلية للحد من انتشار المرض، وقاموا بتقييم بعض وسائل الحماية الشخصية، مثل الكمامات ووفرة (الأسِرَّة) على المستوى العالمي.
وفي أثناء المحاكاة الطبية يجب على المدربين تطوير منهج قائم على المحاكاة، يعالج بشكل منهجي مبادئ إدارة علاقات الجهات المستهدفة، وقد يكون من المغري إنشاء سيناريوهات تتضمن العديد من كفاءات إدارة علاقات العملاء أو جميعها بتوقيت موحد، خاصةً إذا كان وقت المحاكاة والموارد محدودة، ومع ذلك فإن التدريب على العمل الجماعي هو عملية ديناميكية أساسية، من المحتمل أن يكون للمنهج الدراسي فيها تأثير أكثر أهمية، إذا تم تخصيص سيناريوهات محددة لمعالجة مجموعة فرعية محددة من المفاهيم، ولأن نطاق أي سيناريو محاكاة واحد سيكون محدوداً، فقد وجب على المدربين تطوير مجموعة من المواقف لتدريب المجموعة الكاملة من النظام البرمجي للسلوكيات المستهدفة.
ولأن الإدارة الفعالة للأزمات، تتطلب التكامل الناجح لمجموعة معقدة من المهارات المعرفية والشخصية، فلا يمكن إنجاز تدريب العمل الجماعي بجلسة محاكاة واحدة، ولإتقان مفاهيم النظام البرمجي، يتطلب مشاركة المعلم والمتعلم في دورة مستمرة من الممارسة والتحسين، حيث تتمثل الخطوة التالية في تحديد أهداف تعليمية محددة وقابلة للقياس لكل مبدأ من مبادئ إدارة علاقات الجهات المستهدفة، وتعمل أهداف التعلم كأساس لتطوير المناهج، ويجب أن تكون محددة بما يكفي لتوجيه بناء سيناريوهات المحاكاة الطبية الفردية، كما توفر أهداف المحاكاة أيضاً إطاراً لاستخلاص المعلومات، ويجب أن تكون قابلة للقياس للسماح لأعضاء هيئة التدريس بتقييم المتعلمين بدقة، وقابلية للقياس كي تمكَّن أيضاً مطوري الدورات التدريبية من تحديد فعالية مناهجهم الدراسية.
وعند صياغة سيناريو المحاكاة الطبية، من الضروري تحديد سياق سريري مناسب للمتعلمين، للمشاركة في تدريب العمل الجماعي، ومن الناحية المثالية يجب أن تكون الإدارة الطبية صعبة ولكنها ليست غامضة، بحيث يمكن للمشاركين التركيز على كيفية تحسين مهاراتهم في إدارة علاقات العملاء، بدلاً من مناقشة التفاصيل الطبية للحالة، ويجب تضمين أحداث التشغيل في جميع أنحاء السيناريو لتزويد المتعلمين بفرص منظمة لعرض سلوكيات معينة، وتلك الأحداث المحفزة تكون عبارة عن مطالبات محددة مسبقاً ضمن السيناريو، مصممة لاستنباط مجموعة من الإجراءات المهمة المتوقعة، وأن تكون التدابير الحاسمة موضوعية وقابلة للقياس، وعلى ارتباط بأهداف التعلم المحددة مسبقاً للسيناريو، لأن القدرة أو الفشل في تنفيذ الإجراءات الحاسمة المتوقعة، تشير إلى ما إذا كان المتعلمون يمتلكون مهارات إدارة الأزمات المستهدفة أم دون ذلك.
وفي مجال الرعاية الطبية، يمكن أن يكون للأزمات والأحداث المفاجئة غير المتوقعة عواقب سلبية خطيرة على المرضى وعلى فرقهم الطبية، ولأن الفرق الطبية الفعَّالة تتطلب قيادة فعَّالة، يجب على القادة الحفاظ على نظرة عالمية أثناء الأزمة، وتجنب التركيز على التفاصيل المعزولة وتجميع المعلومات الأساسية باستمرار، والتكيف مع المواقف الديناميكية، وألا يكون القادة منفتحين فقط على التعليقات، لكن يجب أن يشاركوا بنشاط أعضاء الفريق الطبي في صنع القرار لإيجاد بيئة تعاونية، وأن يوازنوا بين الثقة والتواضع، حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات هادئة في الوقت المناسب مع إدراك قيودهم أيضاً، ومن المهم ملاحظة أن القائد الفعَّال يتطلب فريقاً فعالاً، وأن يكون لدى أعضاء ذلك الفريق فهم مشترك لأهدافهم والتعرف على أدوارهم الفردية داخل الفريق، والاستعداد لدعم بعضهم البعض.
ويُعد الفشل في الاتصال سبباً رئيسياً للأخطاء الطبية، ما يعني أن الاتصال الفعَّال أمر بالغ الأهمية لنجاح أي فريق، لذلك يجب أن يكون الاتصال واضح ومختصر وفي الوقت المناسب، ويجب أن تستخدم الفرق اتصال الحلقة المغلقة بشكل روتيني، لضمان تلقي الرسائل بشكل صحيح، وأن يهدف أعضاء الفريق الطبي إلى أن يكونوا «محترمين وحازمين» عند التواصل، ويجب على قائد الفريق تعزيز الاتصال ثنائي الاتجاه، لتسهيل تبادل المعرفة والاستعلام، ومن خلال المحاكاة والتفكير المسبق وتوقع ما قد يحدث، يمكن للفرق التخطيط لإجراء تغييرات على المريض أو على البيئة، ويمكن أن يتم التخطيط قبل وقت طويل من حالة الطوارئ، مثل وضع خطة لمواجهة الكوارث على مستوى المستشفى، وممارستها مباشرةً قبل الموقف شديد الخطورة، مثل إجراء موجز مسبق، للاستعداد لوصول مريض في حالة حرجة أو أثناء أزمة.
وعبر المحاكاة والتوقع والتخطيط، يمكن للفرق تطوير نموذج عقلي مشترك، وتحديد أولويات المهام وتعزيز السلامة في مكان العمل، وتقليل التوتر والقلق وتحسين رعاية المرضي، كما تشمل موارد الإدارة الفعالة للأزمة الطبية الأفراد والمعدات والمساعدات المعرفية، وقد تختلف إمكانية الوصول لهذه الموارد وفائدتها اعتماداً على الإعداد «السريري» والوقت من اليوم وخبرة الطبيب، إضافة إلى أن الموارد التي تظهر دوماً أثناء رعاية المرضى الروتينية، قد يتم التغاضي عنها بسهولة أثناء الأزمات العصيبة، ما يعني ضرورة قيام الفرق الطبية بإجراء مسح مستمر لبيئتهم لتحديد كل الموارد المتاحة، ومعرفة متى يتم تعبئة كل مورد، والذي سيعتمد على الاحتياجات المحددة للفريق، وعلى مدى تعقيد الأزمة الطبية، ويجب على الفرق الطبية طلب المساعدة مبكراً، وتفعيل الموارد الإضافية.