عبدالرحمن الحبيب
مع ازدياد نفوذ الصين وتأثيرها وثقلها الاقتصادي عالمياً، ازدادت أهمية تعليم اللغة الصينية أو الماندرينية حول العالم، حتى رأى البعض أنها قد تكون لغة المستقبل.. لكن حدث ما يغير هذا التوقع خاصة في العالم الغربي حيث بدأ هذا الازدياد بالتراجع، رغم استمرار تناميها في مواقع أخرى... لماذا بعد هذا التوسع يبدو أن تعلم لغة الماندرين قد انخفض في العديد من البلدان؟
بداية، كيف كان تنامي الماندرينية؟ في المدارس الأمريكية في بداية الألفية ازدادت أهمية تعليم الماندرينية، إذ كان هناك حوالي ألفي متعلم لها عام 1991 فقفز إلى حوالي 118 ألف عام 2005 ثم إلى 750 ألف شخص نجحوا في اختبار المهارة للغة الصينية في عام 2010.. وفي عام 2015، دعت الحكومة الأمريكية مليون طالب في المدارس الابتدائية والثانوية في أمريكا لتعلم اللغة الصينية بحلول 2020. وفي عام 2016 حذت بريطانيا حذوها، وشجعت الأطفال على دراسة «واحدة من أهم اللغات لازدهار المملكة المتحدة في المستقبل».
كل هذا التقدم أخذ في الانحسار، حسب تقرير مجلة الإيكونيميست، فمثلاً في أمريكا بلغ عدد دورات لغة الماندرين ذروته عام 2013؛ وفي الفترة من 2016 إلى 2020، انخفض معدل الالتحاق بهذه الدورات بنسبة 21 %، وفقًا لجمعية اللغات الحديثة. وفي بريطانيا، انخفض عدد الطلاب المقبولين في برامج الدراسات الصينية بنسبة 31 % بين عامي 2012 و2021، وفقًا لجمعية إحصاءات التعليم العالي، التي تحسب مثل هذه الأمور (رغم أنها لا تحسب أولئك الذين يدرسون لغة الماندرين كجزء من درجات علمية أخرى).
كما أن الحماس لتعلم لغة الماندرين يتراجع في أستراليا ونيوزيلندا رغم أن الصين هي الشريك التجاري الأول لهما؛ إذ انخفض معدل الالتحاق بالدورات الجامعية بنسبة هائلة بلغت 48 % في نيوزيلندا بين عامي 2013 و2022. وتبدو الحالة مماثلة في ألمانيا، حيث تظهر البيانات انخفاض الشهية للدراسات الصينية بين طلاب السنة الأولى بالجامعة، وأفاد الباحثون في بلدان الشمال الأوروبي عن اتجاهات مماثلة. وهناك أيضًا عدد أقل من طلاب الجامعات الأمريكية الذين يدرسون في الصين. وكانت معاهد كونفوشيوس منتشرة في حرم الجامعات الغربية، حيث كانت تزودهم بمعلمين رخيصين للغة الماندرين.. ومنذ عام 2017، أُغلقت أكثر في من 100 جامعة أمريكية. وقد اتخذت الجامعات في أماكن أخرى من الغرب خطوات مماثلة.
فما هي أسباب تراجع انتشار الماندرينية؟ بداية يبدو أن دراسة اللغات الحديثة عموماً تتراجع في كثير من البلدان، وبشكل عام، يبتعد الطلاب عن العلوم الإنسانية كما تشير العديد من الدراسات. إلا أن ثمة تقارير توضح أن الماندرينية انخفضت بشكل أسرع من معدلات الالتحاق بجميع اللغات الأجنبية مجتمعة في أمريكا. فحسب استطلاع دولي تم إجراؤه عام 2016 لوكلاء التعليم - المستشارين الذين يساعدون الطلاب على اختيار المؤسسات - وكان السبب الأكثر شيوعًا وراء دراسة الأشخاص للغة الماندرين في ذلك الوقت هو تحسين فرص عملهم.. فمن عام 2010 إلى 2015، ارتفع عدد إعلانات الوظائف في أمريكا التي تتطلب مهارات في اللغة بنسبة 230 %، وفقًا لمؤسسة Language Connects Foundation. ويعتقد أن الشركات الأمريكية لا تزال تفضل لغة الماندرين على أي لغة أجنبية أخرى، باستثناء الإسبانية، ولكن يبدو أن هذا لم يعد يحفز الطلاب. تقول جنيفر ليو، التي تدير برنامج لغة الماندرين بجامعة هارفارد، إن مشاركة طلاب الأعمال انخفضت خلال العقد الماضي، مقارنة بأولئك الذين يدرسون الشؤون الدولية والأمن.. لقد تغير سوق العمل (الإيكونيميست).
تعمل أدوات الترجمة المتقدمة جداً في الإنترنت بشكل جيد بحيث تكفي لمن يرغب بمهارات منخفضة التي لم تعد هناك حاجة إليها، بينما يشغل الخريجون الصينيون ثنائيو اللغة العديد من الوظائف التي تتطلب لغة الماندرين. ومن حيث المهارات اللغوية، فهم غالبًا ما يكونون أكثر تأهيلاً من نظرائهم الغربيين. إذ يبدأ جميع الأطفال الصينيين في تعلم اللغة الإنجليزية في سن الثامنة، وبعضهم حتى قبل ذلك؛ كما تتطلب امتحانات القبول بالجامعات في الصين مستوى عالٍ من الكفاءة.
التوترات بين الصين والغرب من المرجح أن يكون لها تأثير، حيث يتحول التعاون إلى تنافس، والتنافس إلى مواجهة... إن التحول في التصورات حول الصين، من مكان لكسب المال إلى المنافس الرئيسي لأمريكا، أثر على خيارات الطلاب، كما يعتقد جيمس جيثين إيفانز من جامعة هارفارد. يرى الكثيرون الآن أنه لا فائدة من دراسة لغة الماندرين، كما يقول تشين دونغدونغ من جامعة سيتون هول (في نيوجيرسي)، حيث انخفض عدد الطلاب الذين يتلقون دروس لغة الماندرين إلى النصف تقريبًا خلال عشر السنوات.
أيضاً، يبدو أن للقوة الناعمة تأثيرًا، فلو قارنا بين كوريا الجنوبية والصين في المسلسلات والأفلام والفرق الغنائية لوجدنا الفرق كبيرًا.. وفي تطبيق Duolingo لتعلم اللغة، تحظى اللغة الكورية بشعبية أكبر من لغة الماندرين (الإيكونيميست).
سهولة أو صعوبة تعلم أي لغة أخرى تعتمد أساساً على قرب خصائصها للغة الأم، وتبدو اللغة الصينية بعيدة عن هذه الخصائص لكثير من البلدان، بينما تعلم اللغات الصعبة لا يبدو بالأهمية نفسها كما كان من قبل..