مشعل الحارثي
شاهد العالم من أقصاه إلى أقصاه عمليات تبادل الأسرى بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إثر أحداث غزة الأخيرة التي بدأت بتاريخ 7 أكتوبر الماضي، وعايشنا تلك الصور المؤثِّرة لاستقبال الأهالي للأسرى والأسيرات الفلسطينيين من النساء وأولئك الأطفال الذين قضوا طفولتهم وربيع عمرهم وشبابهم بين قضبان السجون بدون ذنب وجناية ورأيناهم وهم يستنشقون طعم الحرية ويطلون على الحياة لأول مرة في ميلاد جديد.
وقضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين هي أحد الجروح النازفة والأليمة في مسيرة النضال الفلسطيني ضد المحتل الإسرائلي وصورة بشعة من صور الظلم وحرب الإبادة الشاملة ولم ينج أحد من سكان فلسطين وغزة بشكل أكبر وطوال (75) عاماً من المرور بهذه التجربة القاسية، حتى أصبحت الاعتقالات والسجن مفردة ثابتة في قاموس الشعب الفلسطيني بسبب كثرة الاجتياحات والمداهمات الإسرائيلية للمنازل ومخيمات اللاجئين والاعتقالات العشوائية التعسفية انتهاء بالمحاكمات الملفقة التي لا تقوم على أساس قانوني أو ثبوت جرم واتهام واضح تحت ما يُعرف لديهم (بالاعتقال الإداري) وما ينتج عنه من صدور أحكام خنفشارية تصل لعشرات أو مئات السنين والتي تعتبر في حد ذاتها جريمة كبرى تتم بكل صلف وعنجهية وتحد للأعراف والقوانين الدولية، وفي ظل غياب كامل للإنسانية والضمير العالمي وتغاض مخجل من المنظمات والهيئات الحقوقية العربية والعالمية.
وخلف هذه الأبواب وجدران السجون الملطخة بالدماء والمحاطة بالأسلاك الشائكة وأبراج وكاميرات المراقبة وفي أكثر من (30) سجناً ومعتقلاً خاضعة للقوانين العسكرية تضم ما يزيد عن (8) آلاف سجين فلسطيني حتى الآن يتعرضون فيها صباح مساء لقسوة المكان والروائح النتنة، وآلام القيود والسلاسل، وصرخات الأنين والتعذيب والتنكيل والذل والإهانة والانتهاكات اللا أخلاقية والتفتيش العاري الجماعي، وتعالي أصوات السياط والضرب بالهراوات وسيل الشتائم والعبارات النابية وحبس الهواء والماء والرش بالغازات، وتقديم وجبات الطعام السيئة والرديئة، وما سجلته جمعيات حقوق الإنسان في تقاريرها من وفاة (107) أسير من جراء التعذيب إلى جانب الآخرين ممن أصيبوا بعاهات دائمة لتعامل المحتل الإسرائيلي معهم بكل عنف وبطش.
ومع كل هذه العوالم والصور الوحشية وصور الذعر والهلع كانت هناك أيضاً قصص وحكايات بطولية قادها المعتقلون الفلسطينيون في ساحات هذه الزنازين لتمثِّل رمزاً للشجاعة والإباء والصمود في أتون العتمة والعزلة ونيران القهر والغطرسة، وبقوة الإيمان والصبر للمحافظة على هويتهم والقناعة التامة بعدالة قضيتهم لتظل حيَّة على الدوام في أذهان الناس رغم عمرها الطويل ومنذ سنوات الاستعمار الأولى، وقد تم ذلك في سلسلة من المظاهرات والإضرابات المتكررة عن الطعام للمطالبة بحقوقهم كأسرى وكبشر، ومنها السماح لهم بإرسال واستقبال الرسائل من أهلهم وذويهم التي كانت في البدء محرَّمة وممنوعة في شرعهم حتى تم الاستجابة لمطالبهم ومنحهم حقهم في الكتابة والقراءة وإرسال الرسائل.
ورغم أن هذه الرسائل التي تقدَّر بالآلاف والمحفوظة لدى ذويهم أو لدى القيادات الفلسطينية والتي لم تسلم من عين الرقيب الإسرائيلي أو ربما تجاوزته بطريقة أو بأخرى في بعض الأحيان، وتمنع أحياناً ويسمح بها أحياناً أخرى، إلا أنها كانت تمثِّل للسجين والمعتقل الفلسطيني نافذة أمل وبصيصاً من نور للإطلال على الحياة والتواصل مع أسرته ومجتمعه الخارجي، بل أصبحت إحدى المرجعيات الأساسية التي كشفت وبكل مصداقية عن تجربة الاعتقال الأليمة في السجون الإسرائيلية، وأسفرت عن الوجه القبيح للمحتل الإسرائيلي وما يحمله من حقد دفين وعنصرية بغيضة ضد كل ما هو مسلم وعربي وإنساني.
وإزاء هذه المرحلة الجديدة تثور العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها ومنها هل ستتوقف وتيرة العنف والاعتقالات وآلة القمع الصهيوني بعد هذه الصفقة لتبادل الأسرى، وهل سيتم فعلاً تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين أم أنها ستعود وبشكل أكثر عنفاً ودمويةً وابتكاراً لفنون جديدة من صور التعذيب والقمع والإبادة طالما العدو المحتل يعيث فساداً في الأراضي الفلسطينية طولاً وعرضاً وأمام أنظار العالم وهل سيكون هناك لاحقاً مراقبة أممية لصيقة لواقع هذه السجون وتحسين شروط الحياة بها والمحافظة على حقوق الأسرى كاملة كما نصت عليه القوانين والأعراف والمعاهدات الدولية.
لقد تم تسجيل وإثبات وتوثيق صور حيَّة من واقع السجون الإسرائيلية والممارسات البشعة للعدو الصهيوني المحتل ليطلع عليها العالم في مئات الدراسات والأبحاث والتقارير لعدد من المنظمات الحقوقية، ومن خلال عشرات الأعمال الأدبية والروائية والأفلام السينمائية، لتؤكد للعالم أن العلاقة بين الأرض والإنسان علاقة قوية أكبر من أن يحدها فكر أو يصفها خيال، بل هي عشق مرتبط بالتراب والجذور وكل معطيات الحياة.