أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في حدود عام 1430 هجرياً بدأت بالتدريج في تأليف كتابٍ باسم (الكُنَّاشة الظاهرية)؛ وهي لديَّ تقع فيما ينيف على خمس مئة ورقة من الخط الدقيق؛ وكانت مادة الطبع آنذاك سيئة جداً قبل وجود مادة الطبع المشرقة التي إذا أُريد تصريفها في السوق والوزارات ذات الاهتمام بتلك الكتب وتوزيعها: يدفع بها إلى المطابع رأساً، ووجدت لديَّ مواد كتب حَوَّلتها من الخط بيدي إلى أدوات الطبع الأنيق؛ وكلها مناسبة مواد كتابي (الكناشة الظاهرية)؛ وسأطبعها قريباً إن شاء الله في عدد من الكتب لا تتجاوز ثلاث مئة صفحة أو ثلاثمئة وخمسون صفحة؛ ومن ذلك كتابي (الفنون العلمية) المتضمن هذه المقالة من مسائل النحو واللغة المعقدة التي نقلتها من كتب (الأجهوري)، و(السيوطي).. إلخ؛ ولا يخفى أن الحروف الهجائية لها حالتان متضادتان في البساطة والتركيب؛ فالبسيطة هي الحروف المقطعة أي المتفرقة خطاً مثل كتابة (التمائم)، والمركبة؛ وهي المجتمعة المتصلة ببعضها، المستعملة في سائر الكتب، والتركيب ممكن في جميعِ الحروف سوى ستة لا يمكن وصلها بما بعدها جمعتها في قولي: (زر ذا ود)؛ وهذا الموضوع ضروري في التأصيل؛ ولكن فهمه عند كثيرٍ من طلبة العلم يَجلبُ لهم دُوارُ الفكر؛ ولكن العلم بهذا الفن من اختصاص ذوي العلم والتمرس في اللغة، وسيكون ما خفي علمه عن طلبة العلم في عام أو عامين مفهوماً على المدى ولو كان بعيداً؛ لأن العِلْمَ بشيىءٍ غامضٍ ينقاد مع التكرار؛ الأصل والقياس أنه لا يوصل ويجمع إلا حروف كلِّ كلمة على انفرادها ما لم يوجد مقتضٍ لوصل كلمتين فأكثر من المقتضيات الأربعة الآتية عن (الهمع)؛ وأكثر ما يوجد موصلاً ومجموعاً من حروف الكلمة الواحدة: ستة أحرف أو سبعة مثل منجنيق، وعلطميس وعفنجيه (وهي الحماقة المفرِطة)؛ وهذا من النادر؛ لأن الغالب في الأسماءِ عدم زيادتها على ستة أحرف.. قال في الخلاصة:
ومنتهى اسم خمس إنْ تُـجرِّدا
وإنْ يزدْ فيه فما سبعاً عدا
وقال في الفعل:
ومنتهاه أربع إنْ جُرِّدا
وإنْ يزدْ فيه فما سبعاً عدا
وأقل ما يوجد موصلاً من كلمتين حرفان مثل بت ومت؛ فإن كل واحد من هذين اللفظين مركب من فعل وفاعل؛ وهما من البيتوتة والموت، ومثلهما (بِنْ) مركب من فِعْل البينونة؛ وأقل ما يوجد مركباً موصلاً من ثلاث كلمات أحرفٌ نحو قَتْه من القوت وفِتْه من الفوات بمعنى السبق أو الترك الذي هو نتيجة السبق؛ فكل واحد من هذين اللفظين مركب من: فعلٍ وفاعل ومفعول؛ فإن أدخلت على أحد هذين الفعلين حرفاً مفرداً مثل فا العطف، أو لام الجواب صارت اللفظة أربع كلمات في أربعة أحرف.. وأقل ما يوجد موصولاً من خمس كلمات تسعة أحرف نحو : {فَسَيَكْفِيكَهُمُ}[سورة البقرة] فإنَّه مركب من كلمتين في أوَّله، وهما الفاءُ والسين؛ لأن كل واحدة منهما حرف جاءَ لِـمعنى؛ وهو كلمةٌ من أقسام الكلام الثلاثة.. ومن كلمتين في آخره وهما اِسمان: ضمير الكاف، وضمير المخاطب المفرد وهما ضمير المخاطبين والفعل متوسط بين الحرفين أولاً والأسمين الضميرين آخراً، ثم وجدنا عشرة أحرف متصلة من أربع كلمات في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهم} (سورة النور/ 55)؛ فإن أدخلت على ذلك فاء الجواب كانت الحروف أحد عشر والكلمات خمساً؛ وقد وجد ست كلمات في تسعة أحرف موصولة كأن تقول لمن سألك عن أمر لَنَفْهَمَنَّكه.
قال أبو عبدالرحمن: ما ذكرناه أولاً من تركيب حروف الكلمة الواحدة ووصلها ببعضها: ليس مما يقصد للبحث عنه من موضوع هذا الفن؛ بل هو من الأمور التي تتقدم معرفتها في ابتداء التعليم، ولقد أوردناه تشحيذاً لذهن الطالب، وتمريناً له، وتبياناً للأساس؛ وإنما الذي ينقاد: فهو وصل الكلمتين فأكثر فنقول الأصل والقياس في كل اجتمعتا أن تكتب كل واحدة منهما مفصولة عن الأخرى منظوراً في أول كل كلمة لحالة الابتداء بها، وملحوظاً في آخرها حالة الوقف عليها لأنَّ مبنى الكتابة على اعتبار الوقف والابتداء كما سبق في تعريفِها أوَّل المقدمة؛ فمن ذلك كلمة (الهمع)؛ فالأصل فيها فصل الكلمة من الكملة؛ لأن كل كلمة تدل على معنى غير معنى الكلمة الأخرى؛ فكما أن المعنيين متميزان فكذلك اللفظ المعبر به عنهما يكون، وكذلك الخط النائب عن اللفظ يكون متميزاً بفصله، وخرج عن ذلك الأصل ما كانا كشيىء واحد فلا تفصل الكلمة من أختِها وذلك أربعة أشياءٍ:
الأول المركب تركيب مزج كبعلبك بخلاف غيره من المركبات كغلام زيد وخمسة عشر.. والثاني أن تكون إحدى الكلمتين لا يبتدأ بها؛ لأنَّ الفصل في لخط يدل علىالفصل في اللفظ؛ فإذا كان لا يمكن فصله في اللفظ فكذلك ينبغي أن يكون في الخطِ فإذا كانَ لا يمكن فصله في اللفظ فكذلك ينبغي أنْ يكونَ في الخطِ وذلك نحو الضمائر البارزة المتصلة ونون التوكيد وعلامتنا التأنيث والتثنية والجمع ؛ وغير ذلك مما لا يمكن أن ابتدأ به.. والثالث أنْ تكون إحدى الكلمتين لا يوقف عليها، وذلك نحو باءِ الجر ولامه وفائِه وكافه وفاء العطف والجزاء ولام التوكيد ؛ فإن هذه الحروف لا يوقف عليها، وخرج عن ذلك واو العطف فإنَّها لا توصل لعدم قبولها الوصل.. والرابع: ما يذكر من الألفاظ اهـ.
قال أبو عبدالرحمن: يعني الكلمات الثلاث الآتية في الفصول الثلاثة بعد هذا الفصل وهي: ما ومن ولا على ما سيأتي بيانها في فصولها.
ومعلوم من الأصول المقررة في لغة العرب أنه لا يبدأ بساكن ولا يوقف على متحرك في غير الضرورة، ولا على التنوين بأقسامه الأربعة المعروفة دون البقية (هي تنوين التمكين اللاحق للأسماء المعربة كتنوين زيد في قولك مررت بزيدٍ، وتنوين التنكير اللاحق للأسماإِ المبنية مثل مررت سيبويه، وتنوين المقابلة اللاحق لجمع المؤنث السالم في مررت بمسلماتٍ، فإنَّه بمقابل النون في جمع المذكر السالم، وتنوين العوض عن جملة أو اسم أو حرف مثل كل قائمٍ فالتنوين عوض عن الإنسان الذي تضاف إليه كل).. قال في أول الخزرجية : وأول نطق المرإِ حرف محرك وقال في الجزرية:
وحاذر الوقف بكل الحركة
إلا إذا رمت فبعض حركة
فلا يوقف على ما يبدأ به لأنه لازم التحرك، والتحرك غير سائغ عند الوقف.. ومن ثم لم يكن من أصولهم في الكلمةِ التي على حرفٍ واحدٍ وضعاً أو عارضاً أن تُكتبَ مقطوعةً عما يتصل بها قبل أو بعد، فإن لم يوجد ما يتصل بها ألحقت بها هاأ السكت وجوباً كما إذا قيل لك: كيف تنطق بفعل الأمر من اللفيفِ المفروق مثل مثل وفى أو وقى أو وعى أو ونى؟. فتقول من الأول: فه بإلحاق هاأ السكت الساكنة لفظاً وخطاً وجوباً، وتركها يعد من الخطأ كما صرح به شيخ الإسلام (بل الإمام رحمه الله تعالى) في مبطلاتِ الصلاة من المنهجِ.. وكذا يقال في نظيره من البقية (يعني بالبقية تنوين الترنم الذي يلحق القوافي المطلقة بحرف علة مثله قول جرير: أقلي اللوم عاذل والعتابن؛ فجيىء به من أجل الترنم بدلاً من الألف؛ والتنوين الغالي (من الغلوِّ)، وهو الذي يلحق القوافي المقيدة مثل: قائم الأغناق خاوي المخترقن)؛ وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
- أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -