د. محمد بن إبراهيم الملحم
المعلم المتمكن والذي يتطلع إلى الإفادة منه كل طالب هو ذلك الذي أوتي فن الإلقاء والتأثير، وهو ليس ذلك الذي ملك المعرفة وأحاط بالعلم من أطرافه، ذلك أن التدريس هو علاقة اجتماعية سيكولوجية بين المعلم والطالب تبدأ بالفهم وتنتهي بالتفهم، الفهم أي فهم الطالب لما يقدمه المعلم من معارف ومعلومات وما يكسبه لطلابه من مهارات، والتفهم هو سعة صدر المعلم وقدرته على التعامل الحسن مع كل طلابه باختلاف قدراتهم وطبائعهم وأمزجتهم، تراه يحبه الطالب المتفوق المتمكن ويحبه الطالب الضعيف، كما يحبه الطالب الخلوق وكذلك المشاكس، هذه الشخصية المتفردة نادرة ولكنها موجودة، وقوام وجودها هو ما أوتيه بعض الناس من موهبة في هذه المجالات، فهو موهوب في إفهام الآخرين وتبسيط العلم لهم، وهو موهوب أيضًا في العلاقات الاجتماعية حيث يعيش (ويتعايش) بشخصية متوازنة ومتطورة على الدوام تتعلم مما حولها وتفهم العالم المحيط بها بطريقة سليمة لتكون في تعاملها معها متأقلمة مرنة resilience. ولقد أعجبني أول ما بدأت مهنتي في التعليم ما ذكره لي أحد معلمي العلوم الذي عمل معي في المدرسة الثانوية التي بدأت مهنتي فيها (بينما كان يومًا ما معلمًا لي في المرحلة المتوسطة)، حيث قال في معرض حديثه عن علاقة المعلم بالطالب المشاكس: المعلم يجب أن يغض الطرف عن بعض التصرفات وكأنه لم يلحظها استنادًا إلى المقولة السائدة «المتغابي سيد الأذكياء».
ليس كل من يمتهن التدريس لديه هذه الملكات والمواهب، ولذلك كان مهمًا أن يقدر كل معلم أهمية تعلم فنون التدريس ويطور ذاته يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، ولا يكتفي بخبرة أول سنة أو ثاني سنة ثم يكررها سنوات طويلة ليأتي بعد عشرين سنة مفتخرًا أنه صاحب خبرة عشرين سنة، بينما كانت في الواقع خبرة سنة أو سنتين فقط وتكررت عشرين مرة بعد ذلك دون أن تنمو وتزدهر. ونمو المعلم لا يبدأ من دراسته لعلوم التربية وفنون التدريس ومناهج علم النفس التربوي وعلم النفس النمائي أو القياس والتقويم وما إليها، وإنما بعد ذلك، لأن هذه كلها أساسيات لوضع البذرة وتنشئة شتلة المعلم البسيطة اليافعة والتي ربما تجرفها أي ريح قوية في ظل منهج صعب أو ظروف بيئة مدرسية صعبة أو تحديات على غرارها تهب عليه من أي جهة. ولذلك يبدأ نمو المعلم منذ بدئه مهنته ليتعلم في غرفة الصف مهنة التدريس، فهو إذن متعلم قبل أن يكون معلمًا.. وتستمر هذه المهمة الخطيرة طوال حياته ولكنها يجب أن تكون أكثر وضوحًا أول عشر سنوات على الأقل من حياته المهنية لاسيما إذا لم تتغير طبيعة المادة التي يدرسها، ذلك أن مثل هذه التغيرات تستلزم جهودًا جديدة في فهم واستيعاب متطلبات المادة الجديدة في فن التدريس، لا من حيث استيعابه محتوى المادة العلمية، ولكن كيفية إيصال مفاهيمها للطلاب وإكسابهم مهاراتها، فلاشك أن ما تعلمه المعلم في تدريس المادة السابقة لن يكون بالضرورة مماثلاً لما تتطلبه المادة الجديدة حتى ضمن التخصص نفسه.
إن مشكلة مؤسساتنا التعليمية أنها لا تحوي برامج لمتابعة نمو المعلم المهني باستثناء نظام الاختبارات المهنية، بينما يفترض أن تكون هناك منهجية لتتبع النمو المهني مع دعمه بالمصادر والبرامج والورش. صحيح هناك تدريب لكنه تدريب احتمالي، أي أنه يقدم لمن يحب الحضور، بل إن المسؤولين يجهدون في إقناع المعلمين للحضور. لابد من خلق بيئة تعلم للمعلمين تقوم على النمو المهني الحقيقي ترعاه خبرات متميزة وتقوده قيادات واعية ليتوفر في مدارسنا المعلم المتمكن بالكم الكافي لازدهار المساحة النوعية من التعليم.