عبدالوهاب الفايز
العودة مجدداً إلى الحديث حول موضوع الاستهلاك المالي السلبي المعزز بطفرة الإقراض المنفلت للأفراد، يذكرنا بالموضوعات التي كنا نركز عليها في الصفحات الاقتصادية قبل عشرين عاماً.
كنا نحلم بهذا الأمر: بناء السياسات الحكومية المشجعة لتنمية سلوكيات وآليات ومنتجات وذهنية الاستثمار والادخار في اقتصادنا الوطني.
ولكن الذي حدث هو العكس: تنمية سلوكيات الاستهلاك السلبي، ومحدودية منتجات الادخار، وتوسع منتجات الإقراض الاستهلاكي الضار بالناس والاقتصاد, لذا سعدنا بتحرك البنك المركزي السعودي (ساما) لوضع الضوابط والآليات الضرورية المنظمة لقروض الأفراد، ولعله يتحرك في جبهة الادخار.
بعد هذه السنوات الطويلة ربما فاتنا تبني ضرورات التربية الوطنية المالية لجيل كامل، ونخشى أن تمضي بنا السنين ونكرر الإخفاق ولا نتعلم من تجارب وهموم وتحديات الحياة المعاصرة. بعد توحيد بلادنا ربما وصلنا إلى الجيل الثالث. أبناء هذا الجيل عليهم مسؤولية وطنية كبيرة تجاه (الجيل الرابع) المقبل على الحياة المعاصرة بكل تحدياتها. هؤلاء علينا مسؤولية إعدادهم وتعليمهم وتربيتهم لزمان غير زمانهم.
في مقدمة احتياجات الجيل الرابع التربوية بناء القناعات بالبساطة والزهد والترفع عن الشكليات في الحياة. هذه نزعة إنسانية عظيمة نحتاجها ضمن أساسيات ومكونات الاستقرار الاجتماعي. في مقال سابق (الجزيرة، 13 أكتوبر 2021 ) قلت: «نتمنى أن يكون في أولويات برنامج القدرات البشرية تعليم الأطفال على (البساطة الإرادية). وهذه طريقة بديلة للسلوك الاستهلاكي المظهري، وطريقة تُعلم كفاءة الإنفاق على السلع والخدمات الاستهلاكية، وتربي على الاهتمام بالمصادر غير المادية المنتجة للإشباع الروحي. إنها طريقة للحياة.. بسيطة خارجيًّا وغنية داخليًّا، وهي (اختيار واعٍ) يربي ويهذب السلوك على الرشد في القرار المالي والاقتصادي المؤدي للحياة الكريمة».
الحياة الكريمة تحتاج التنمية المستمرة لمهارات الاستهلاك الرشيد للموارد. فالتوعية الدائمة هي أفضل الآليات لحماية المستهلك. الوعي هو الرعاية الأولية الضرورية التي توفر الجهد والمال. لكن التوعية مهمة صعبة ولا تأتي بالتمني. هي صعبة لأنها تربية مستدامة للمستهلك على منظومة القيم الدينية والأخلاقية التي تحكم علاقة الإنسان بالموارد التي يحتاجها في حياته. هذه، منذ الطفولة تتحقق عبر بناء العادات والسلوكيات الاجتماعية الرشيدة.
في سياق التربيه والحماية المالية الممتدة للمستهلك المالي، ثمة آلية نوعية جديرة بالتبني وهي: تأسيس (صندوق وقفي لكل طالب). لهذا المشروع مميزات عديدة من أبرزها تعليم الأطفال مبكرًا مهارات الادخار والتخطيط للمستقبل والاستعداد للتقاعد. وهذه تتم عبر مشروع وطني لبناء قدرات الأطفال في إدارة المال وتوجيههم لتحقيق الاستقرار المالي في المستقبل. طبعًا هذا المشروع سيكون صعبًا إذا لم توجد الإرادة.. وفي المقابل سيكون ممكنًا ومبدعًا وله الأثر الإيجابي المتعدي إذا عقدنا العزم وعصرنا الفكر.
هذا المشروع سيكون (متعة تعليمية) تطلق خيالات الطلاب، وتنمي مهاراتهم، وتوجد الاتجاهات الإيجابية للتعامل الذكي مع المال. وهذه تحقق أحد مقاصد الشريعة الأساسية التي تُوجّه وتحدد آليات وأخلاقيات كسب المال وإنفاقه وادخاره وتنميته. الأفضل لهذا المشروع أن يتم في إطار (مادة دراسية مخصصه للأوقاف) تبدأ مع الطلاب من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية.
الفكرة بإطارها المبسط: حين يدخل الطالب المدرسة يبدأ صندوقه الوقفي بمبلغ بسيط يدفعه أهله، أو يدفعه مانحون خيريون، أو تدفعه الحكومة من مخصصات برامج التنمية الاجتماعية والإنسانية، ويكون مُحَوْكمًا بآليات الصناديق الوقفية، ويكون له مجلس نظار. ربما نحتاج إنشاء (بنك الأوقاف الوطني) يتخصص بإدارة الصناديق الطلابية الوقفية، وقد يكون بنكًا افتراضيًّا تنشئه البنوك السعودية بالمشاركة مع الهيئة العامة للأوقاف، والهيئة العامة للتقاعد، وبنك التنميه الاجتماعي.. وغيرها من الشركاء الأساسيين.
هذه المبادرة النوعية تخدم عددًا من برامج الرؤية. فاستخدام فكرة الأوقاف، كوسيلة لتعليم الأطفال الادخار والتخطيط للمستقبل، تساعدهم في تعلم مبادئ الاقتصاد والتحكم في الإنفاق، كما يمكنها تعزيز الوعي المالي والمسؤولية الشخصية تجاه المال. طبعًا الخبراء في التربية المالية يستطيعون إنشاء نماذج تعليمية مالية تشرح كيفية إدارة المال والاستثمار، وتعلم الأطفال أهمية الادخار والتخطيط للمستقبل.
أيضًا الأوقاف تعد مدخلًا لتعليم الأطفال الإبداع المالي لكون الأوقاف تحتاج التنوع في المجالات والاحتياجات وأساليب الاستثمار. من خلال إنشاء الأوقاف والمؤسسات المالية للأطفال، يمكننا تزويدهم بالخبرة العملية في إدارة الأموال واتخاذ القرارات المالية مثل إعداد الميزانية وتحديد أولويات النفقات واتخاذ الخيارات بشأن الادخار والاستثمار.
أيضًا يمكن تعليم الأطفال كيفية تحقيق الأهداف المالية عبر إنشاء أوقاف ذات أهداف محددة، مثل الادخار لنشاط رياضي أو هواية فنية.. وغيرها. هذا يشجع الأطفال على تحديد الأهداف المالية، والتخطيط لكيفية تحقيقها، ومراقبة تقدمهم بانتظام، ويعزز الشعور بالمسؤولية والفعالية في إدارة الموارد للوصول إلى الأهداف.
كذلك يمكن استخدام الأوقاف لمحاكاة المحافظ الاستثمارية، حيث يمكن للأطفال التعرف على مفهوم العائدات والمخاطر المحتملة المرتبطة بخيارات الاستثمار المختلفة. وهذا يمكن أن يوفر لهم فهمًا عمليًّا لكيفية نمو الأموال وأهمية اتخاذ قرارات مالية مستنيرة.
أيضًا سيكون الصندوق آلية لتشجيع الأبناء على تخصيص جزء من وقفهم للأعمال الخيرية أو المشاريع المجتمعية. هذا يغرس الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والتعاطف، ويظهر لهم أهمية قوة المال للتغيير الإيجابي في حياتهم وفي بلادهم.
كذلك يمكن الاستفادة من الأوقاف لتمويل مشاريع ريادة الأعمال الصغيرة أو المشاريع التي يهتم بها الأطفال. وهذا يتيح لهم استكشاف طرق مبتكرة لتوليد الدخل، وفهم قيمة العمل الجاد، والتعرف على الجوانب المالية لإدارة الأعمال التجارية الصغيرة. كذلك عبر إنشاء صندوق وقفي مخصص للأغراض التعليمية، يمكن أن يتعلم الأطفال أهمية التخطيط طويل المدى لتعليمهم وحياتهم المهنية المستقبلية، بالذات الاستثمار في المعرفة والمهارات غير المنهجية التي لا يقدمها التعليم العام.
هذا جزء مما يطرحه المختصون بالثقافة المالية، ففي أدبيات هذا المجال هناك مبررات كثيرة توضح كيف يمكن أن تكون الأوقاف بمثابة أداة قوية لتنمية الإبداع المالي لدى الأطفال من خلال تزويدهم بالتجارب المالية الواقعية، وتعزيز الإدارة المسؤولة للأموال. من خلال دمج الأوقاف في تجاربهم التعليمية، يتعلم الأطفال مهارات مالية قيمة تخدمهم بشكل جيد طوال حياتهم.
وهذه أفضل آلية لإيجاد (المستهلك المالي الرشيد)، فالتعليم يتحقق هنا عبر الممارسة والمشاركة، إنها رحلة تعلم مفتوحة.. وممتعة, والأهم: تساعدنا في إحياء شعيرة الوقف التي ساهمت في بناء الحضارة الإسلامية.
من يحمل الراية؟