أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
الحقيقة أنني لن أكون مبالغاً حينما أزعم أن بلوغ الخطط التنموية هذه الغاية المحلقة سوف تُمِكِّنُ المخططين وصناع القرار بكل تأكيد من الكشف عن النظام الذي يتحكم في ظواهر مجتمع اقتصاد المعرفة من ناحية، واستخلاص القواعد المفسرة لسلوكه وفق بنيات رياضية تحليلية صارمة تَحصُر الاحتمالات الإحصائية، وتُضَيِّقُ النطاق العددي والمضاميني المقبول منها تنبؤيًا. كما أزعم أن بلوغ هذا المستوى التنموي الحدي المرموق سيدفع بالضرورة صناع التنمية في نهاية المطاف إلى توحيد مسارات التفاعلات بين ظواهر مجتمع اقتصاد المعرفة المستهدف، وتوسيع نطاق ترابط ظواهره بحيث تنتهي مسارات هذا الترابط في رؤية منظورية برجماتية منفتحة شاملة ترجع جميع قضايا التنمية بمجالاتها كافة إلى تفاعل أساسي أبستمولوجي موحد المنطلق.
واستنادًا على ما سبق ذكره بادئ ذي بدء، لا يمكن -في رأيي المتواضع- إذن أن تتحقق بطبيعة الحال بنية تنموية وطنية فاعلة تتسق مع ما ذكرته آنفاً في ظل أطياف من الموانع والمعوقات الظاهرة والباطنة التي من أهمها -في ظني- هيمنة رؤي مجتمعية دوجماتية متنطعة ضيقة الفكر تنظر لنظم التنمية من خلال مناظير فكرها الداكن وفلسفاته الدجماتية للحياة والكون وشماعات مؤامراتها الواهية الواهنة المزعومة.
كما لا يمكن أن تتحقق التنمية المنشودة وتلك الرؤى تصول وتجول عبر سيناريوهاتها البائسة غير الواقعية، وأوهامها الشاطحة التي لا تسندها الوقائع المقيسة، ولا تبررها أبجديات الخبرات الإدراكية المسبقة، ولا تتسق بأي حال من الأحوال مع منطق المصالحة مع النفس ولا مع ورع ذاتها وذات ورعها، ولا تتلاءم بطبيعة الحال مع حسن نوايا صناع التنمية وفرسانها وأبناء بجدتها المخلصين الطموحين من بني جلدتهم في الوطن. كما لا يمكن -في رأيي المتواضع- أيضاً أن تتحقق بنية تنموية وطنية فاعلة مع وجود فئة من المجتمع أو أكثر أكاديمية كانت أو غير ذلك تحتكر الثقافة، وتصادرها، وتحجر عليها، وتحصرها في العلوم الطبيعية النظرية والتطبيقية أو التقنية المهنية فحسب وتقصي في الوقت نفسه الدور المهم الذي تلعبه ثقافة العلوم الإنسانية النظرية والتطبيقية الأدبية والتربوية والاجتماعية والإدارية في التنمية الوطنية. تلك التنمية التي تؤسس جذورها وترتوي من منبع واحد تجتمع في مصبه كل العلوم والمعارف والآداب والفنون الرافدة للثقافة العلمية. فليس من المتوقع أو المنطقي أبدًا أن نتصور تنمية وطنية شاملة فاعلة دون أن يكون لها مرجعيات رابضة في العلوم الإنسانية الأساسية الاجتماعية والأدبية والتاريخية والجغرافية والنفس- تربوية والإدارية على قدم المساواة تمامًا مع نظيراتها من المرجعيات العلمية القابعة في العلوم الأساسية الأخرى الطبيعية والتقنية التي لا ينبغي المزايدة بها على حساب إسقاط حق العلوم الاجتماعية والإنسانية كروافد أساس لثقافة العمل التنموي الوطني الجاد. فالفصل بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والأدبية والإنسانية الواسعة الأطياف والمرامي من شأنه أن يوجد أوضاعًا تؤثر سلباً على المصير التنموي الشامل لمجتمعات اقتصاد المعرفة وغايات وأهداف ذلك المصير، ومساقات مجالاته الزمكانية الزاخرة.
اعتمادًا على ما تم سرده أعلاه، فمن غير المنطقي والبديهي -في رأيي المتواضع- إذن التفريق بين نمط من الثقافة العلمية الرافدة للتنمية الوطنية وآخر اعتمادًا على الوعاء المعرفي السلوكي للنمط، أي من حيث كونه نمطًا لثقافة تجريبية أو غير تجريبية إنسانية أو طبيعية نظرية أو سواها، أو اعتمادًا على التصنيف التخصصي الدقيق للنمط الثقافي ومدى حجم أطره التطبيقية. ويعود السبب في ذلك إلى أن كل حقول المعرفة - كما أشرت إلى ذلك في بعض مقالاتي السابقة المنشورة في صحيفة الجزيرة الغراء - هي علوم على قدم المساواة نتيجة لتوظيف كل منها خطوات المنهج العلمي وأساليب إعمال العقل التي بهما تؤطر تعميماتها، وتحدد استنتاجاتها، وتبلور استنباطاتها وتطبيقاتها. والواقع أنه لا توجد ثقافة علمية بعينها في أي مجتمع من المجتمعات بالمعنى المعرفي الشامل للكلمة، فكل ثقافة علمية حية لابد أن تجمع بالضرورة بين النظم العقلية والتجريبية العملية، والفكرية الفلسفية، والأدبية النقدية التحليلية، والميثودولوجية الطرائقية والعقائدية الإيمانية من دون أن يؤثر هذا الجمع في واقع الأمر في الحد من صيرورة نظم العلم أو المعرفة والتقنية وتطورها. ولا شك أن لهذا الرأي وجاهته وأسانيده في ظل الفكر التنموي للاقتصاد المعرفي الذي أسقطت مجتمعاته إلى حد كبير الأسوار بين العلوم والثقافات وفتحت مجالاتها على بعضها نتيجة للتقدم الهائل في منهجية النظر والتطور المتسارع المذهل في مجالات الاتصالات والمعلومات وأنظمة برمجتها وتخزينها واسترجاعها عبر التقنيات المتعددة الوسائط وشبكات الإنترنت. كما أُسقِطت تلك الأسوار نتيجة لتبني مجتمعات اقتصاد المعرفة بكفاءة واقتدار تقنيات النانو وما ينضم أو ينضاف إليها من فواصل الزمكان والمسافات وعوالم الفراغات والفواصل المترية الدقيقة ما تحت الميكروسكوبية، وغزو الفضاء وحرب النجوم وما اقترن قبل كل شيء وبعده بالذكاء الاصطناعي وخاصة النوع غير التقليدي المحدد. وبناء على ما تقدم، فالمحك في التفريق إذن بين نمط ثقافي علمي وآخر من حيث مدى حجم رفده للتنمية الوطنية الفاعلة هو محك منهجي وليس محكًا معرفيًا أو نوعيًا تصنيفيًا كما يظن البعض من المشتغلين اليوم بهذا الشأن المعرفي المؤطر لثقافتي مجتمعات اقتصاد المعرفة والتنمية الوطنية.
في نهاية هذا المقال يجب التأكيد بصوت عالٍ على الدور الفاعل الذي يجب أن تلعبه العلوم الشرعية كرافد أساس للتنمية الوطنية جنبًا إلى جنب مع زميلاتها العلوم الأخرى. فالعلوم الشرعية هي التي تضبط مسار التنمية وتؤصله وتقيس عليه تحولات الأحداث في الزمان والمكان وفق الكتاب والسنة المطهرة والإجماع وطرائق الاجتهاد والقياس وغيرها من وسائل استنباط الأحكام. كما لابد التنويه هنا أن هذه العلوم لن تكون مؤثرة في مسار الحياة وبالتالي في المجالات التنموية الوطنية إلا إذا تبنى المشتغلون بها ثقافة ذات منهجٍ علميٍ حواريٍ عادلٍ معتدلٍ رشيدٍ يتقبل بصدر رحب وعقلية معيارية موضوعية منفتحة مختلف اجتهادات الغير طالما أنها لا تخالف ما هو قطعي الثبوت والدلالة من النصوص الشرعية أو الإجماع أو ما علم من الدين بالضرورة. وفي المقابل فإن على المشتغلين بالعلوم غير الشرعية - ممن وصفوا أنفسهم بالتنويريين أو اللبراليين أو المثقفين أو النخبويين - أن يعوا أن الثقافة العلمية وقرينتها التنمية الوطنية تستندان إلى أنساق هي في الغالب ليست حدية قطعية مطلقة بل نسبية تتطور وتتجدد بتغير أحوال الزمان والمكان. ولهذا على هؤلاء تقبل النقد وتعديل رؤاهم بما تقتضيه الأحكام الشرعية، وحكمة صنع القرار التنموي، والمنطق الجمعي العقلاني البرجماتي الموضوعي غير الدوجماتي. ولا شك أن هذا المسار الحكيم من كل فئات المجتمع وأطيافه الفكرية لجدير أن يعزز اختلاف التنوع، ويجنب المجتمع براثن اختلاف التضاد الذي يؤدى في الأغلب الأعم إلى استفحال حالات العقم الثقافي، وجمود الأوضاع، وتأخير فرص التقدم التنموي في المجتمع أو تعطيلها وربما الإنهاء عليها.