د.عبدالله بن موسى الطاير
للميليشيات المسلحة تاريخ طويل في الولايات المتحدة، يعود إلى الحقبة الاستعمارية، ولعبت دورًا رئيسيًّا في الثورة الأمريكية وفي الحرب التي خاضتها أمريكا ضد بريطانيا العظمى وحلفائها في أمريكا الشمالية والسكان الأصليين من الهنود الحمر عام 1812م. ومنذ الثورة الأمريكية 1775-1783م إلى العصر الراهن، مثلت تلك المليشيات المسلحة خطرًا يهدد أمن المجتمع الأمريكي، وأثار تنامي صعودها في السنوات الأخيرة مخاوف بشأن تورطها في دورة عنف وتطرف محلي خاصة بعد أحداث اقتحام الكونجرس في 6 يناير 2021م.
الانغلاق في بعض الولايات الأمريكية ومجتمعاتها المنعزلة يصور للناس أنهم في خطر وأن تشكيل مليشيات محلية هو خط الدفاع الأول ضد عدو يتهددها أو ضد استبداد الحكومة، ولذلك يتم تنظيمهم على مستوى المجتمع أو الولاية بهدف معلن هو الدفاع عن محلياتهم أو حماية الدستور الأمريكي. ظهرت حركة الميليشيات الحديثة في التسعينيات ردًّا على عدد من التهديدات المتخيلة، بما في ذلك تجاوزات الحكومة، وإعلانات الساسة الديموقراطيين السيطرة على الأسلحة، وتصاعد وتيرة الهجرة، وأضافت أحداث 11 سبتمبر 2001م هدفًا جديدًا تمثّل في عدو عقدي أثار الرعب في بعض المجتمعات المنعزلة مما أدى إلى تعلقها أكثر بحماية المليشيات المسلحة المحلية.
تلك الجماعات المدججة بالسلاح وشبه العسكرية ملتزمة بأيديولوجية لا تثق في الحكومة، وتؤمن بضرورة أن يكون المواطنون مستعدين للدفاع عن أنفسهم ضد الطغيان، كما أن حدّة الانقسام في المجتمع الأمريكي بين الليبراليين والمحافظين جعل حمل السلاح والاحتماء بتلك المليشيات ذا هدف أسمى وهو المحافظة على كيان الأسرة من الأجندة الليبرالية التي ضيعت، من وجهة نظرهم، هوية الجيل الأمريكي المعاصر.
حدّة الاستقطاب في المجتمع الأمريكي، وعمق الأدلجة الذي يمنع الحزبين الرئيسيين من اللقاء في منطقة متوسطة، وتنامي الخطاب التحريضي، والإيغال في خطاب الحشد المتبادل الذي يعظّم الخوف ويثير الرعب في نفوس الأمريكيين، ووصول نفر غاية في التطرف إلى الكونجرس، جميعها عوامل تشير إلى أن المليشيات المسلحة في المجتمع الأمريكي في تنامٍ وأن احتمال وقوع أعمال عنف وارد، بما في ذلك المواجهة مع سلطات إنفاذ القانون، والهجمات على المباني الحكومية. نتذكر في هذا السياق ما حدث عام 2020م عندما اكتشفت السلطات عناصر ميليشيات في ميتشيغان، تخطط للإطاحة بحكومات الولاية، التي تنتهك دستور الولايات المتحدة الأمريكية، من وجهة نظرهم، وكانت الجماعة المسلحة تصور بالفيديو تدريباتها المسلحة وتخطط لقتل «طغاة» واختطاف والإطاحة بحاكمة ميتشيغان الديموقراطية غريتشن ويتمير، ومحاكمتها بتهمة الخيانة.
تلك الجماعات تعتنق أيدولوجيات راسخة ومتوارثة، ترفض التعايش، وتحارب الهجرة سواء الداخلية أو الخارجية إذا لم تكن وفق محدداتهم العنصرية، وغالبًا ما تتبنى وجهات نظر متطرفة، مثل تفوق العرق الأبيض ومعاداة السامية، وهي متهمة من قبل الحكومة ومن قبل المناوئين لها بترهيب الناخبين والتدخل في الانتخابات.
تشير المصادر إلى صعوبة إحصاء العدد الدقيق للميليشيات في أمريكا بسبب الطبيعة اللامركزية لهذه الجماعات، ومع ذلك، فإن مركز (SPLC) الذي يتتبع الجماعات المتطرفة في الولايات المتحدة، رصد 61 مجموعة ميليشيا مسلحة نشطة في عام 2022م، كما حدد المركز ذاته 702 جماعة مناهضة للحكومة في عام 2022م بزيادة بنسبة 44% عن عام 2021.م. تشير مصادر أخرى أنه كان هناك ما يقدر بنحو 500 ميليشيا مسلحة في عام 1994، وارتفع العدد إلى 858 في عام 1996م، وقد زاد عدد الميليشيات في السنوات الأخيرة على الأرجح بسبب عدد من العوامل، بما في ذلك الاستقطاب السياسي، وعدم اليقين الاقتصادي، ووباء كوفيد-19.
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الميليشيات في أمريكا غير عنيفة، كما يؤكد المتتبعون لأنشطتها، فقد كان هناك عدد من الحوادث البارزة التي تورطت فيها الميليشيات في السنوات الأخيرة، بما في ذلك مواجهة بوندي عام 2016 في ولاية أوريغون حيث اتهم نائب أمريكي عن ولاية واشنطن، يدعى مات شيا، بالمشاركة في عمل إرهابي داخلي بتأسيسه ميليشيا تعلن الحرب والتمرد لتنتهي بإعلان حكم ديني في أمريكا، وقتل كل من يعارضها، ومسيرة توحيد اليمين عام 2017 في شارلوتسفيل، فيرجينيا التي قتلت فيها مواطنة دهسًا، والهجوم على مبنى الكابيتول الأمريكي عام 2021م.