عبدالرحمن الحبيب
عندما التقى المؤرخ البريطاني جارتون آش بالمستشار الألماني هيلموت كول، الذي كان قد أعاد توحيد ألمانيا للتو، في مكتبه في خريف 1991، قال كول: «بالمناسبة، هل تدرك أنك تجلس مقابل الخليفة المباشر لأدولف هتلر؟» يقول جارتون آش إن هذا التعليق «المثير للدهشة» يعكس إحساس كول العظيم بالتاريخ. لقد أخطأ هتلر في كل شيء عندما حاول وضع سقف ألماني فوق أوروبا؛ بينما كان كول عازماً على وضع سقف أوروبي فوق ألمانيا، حسب جارتون آش.
آش له العديد من المؤلفات حول أوروبا، وأصدر مؤخراً كتاباً بعنوان «الأوطان: تاريخ شخصي لأوروبا» (Homelands: A Personal History Of Europe) وهو أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد، إضافة لمهنته كصحفي متنقل بين أرجاء أوروبا قرابة 50 عامًا، ليشهد أحداثًا عظيمة، ويلتقي بالناس والقادة، ويدرس الجغرافيا السياسية للقارة العجوز.
الكتاب يمزج بين المنهج العلمي والأسلوب الصحفي بتسلسل زمني من الحرب العالمية الثانية إلى الوقت الحاضر، من خلال تحليل يتضمن الصور والحكايات الشخصية المثيرة.. كما أنه مليء بعشق المؤلف لأوروبا الواحدة بكل قلبه وروحه مما قد يؤثر في هذا التحليل وحياديته لا سيما موقفه من روسيا، فالكتاب مليء بالتجارب القصصية من ذكريات والده عن يوم الإنزال التاريخي للحلفاء على شواطئ النورماندي (1944)، ومراقبته على يد البوليس السري في ألمانيا الشرقية، إلى إجراء مقابلات مع المتمردين الألبان في جبال كوسوفو والمراهقين الغاضبين في أفقر الأحياء في باريس، فضلًا عن تقديم المشورة لرؤساء الوزراء والرؤساء. لذا، وضع المؤلف في عنوان الكتاب كلمة «شخصي» ربما ليتجنب المطالبة بالنهج العلمي الموضوعي.
بطريقة «تاريخ الحاضر» تبدأ رحلات آش من عام 1972 متنقلًا بين أرجاء أوروبا، حيث يذكر أن معظم القارة كانت حينها تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية خاصة شرقها وجنوبها.. لكن منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، بدأت أوروبا في إزالة الأغلال حسب وصفه، واستمرت في منحنى تصاعدي دام 35 عاماً في توسع الحرية بأوروبا. وفي نفسه الاتجاه التصاعدي توسعت عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ويزعم جارتون آش أنه لم يحدث من قبل مثل هذا التقدم نحو أوروبا «الكاملة والحرة»، رغم أنه كانت هناك بالطبع انتكاسات على طول الطريق، مثل الحروب في يوغوسلافيا، لكن المسار الأوروبي العام كان متصاعداً.
إنما الصدمة الأولى لهذا المنحنى التصاعدي كانت عام 2008 مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، ليبدأ منعطف نزولي، ثم تلاه ضم روسيا لأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا. ثم أعقب ذلك سلسلة من الأزمات، مع الركود الكبير وأزمة منطقة اليورو. في عام 2010، بدأ الشعبوي فيكتور أوربان في هدم الديمقراطية في المجر حسب تقييم المؤلف. وفي عام 2014، ضم فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم وبدأت الحرب الروسية الأوكرانية شرق أوكرانيا.. شهد عام 2015 أزمة اللاجئين الأوروبية، في حين شهد عام 2016 خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليبدأ الشرخ في هذا الاتحاد.. ومنذ ذلك الحين، بدأ صعود الشعبوية والقومية المناهضة لأممية الاتحاد الأوربي وتحسن موقعهم في الانتخابات.. وفي 2020 هزت جائحة كورونا أوروبا بشدة.. أما الأزمة الكبرى فكانت الحرب الروسية الأوكرانية، أكبر حرب شهدتها أوروبا منذ عام 1945، لتمثل نهاية حزينة لفترة «ما بعد الجدار» في أوروبا، والتي استمرت من 1989 إلى 2022.
ما الذي مزق أوروبا؟ يقدم آش ثلاثة تفسيرات محتملة، لخصها جون ويست (جامعة صوفيا بطوكيو). أولاً، أوروبا والغرب افترضا بسذاجة أن الاتجاهات الإيجابية (حتى عام 2008) سوف تستمر، لكن التاريخ لا يمضي خطِّياً. ثانياً، أوروبا والولايات المتحدة مارستا أشكال متعددة من الغطرسة. إنما الأمر الأهم حسب جارتون آش هو الفشل في معرفة تاريخ الإمبراطوريات المتدهورة. القوى الإمبراطورية لا تحب الانحدار، فقط اسأل البريطانيين والفرنسيين! وبالتالي، فعندما اختفت الإمبراطورية الروسية/السوفييتية، وهي أكبر إمبراطورية أوروبية متبقية، في غضون ثلاث سنوات، لم يكن من الواجب علينا أن نفترض أن هذه كانت نهاية القصة. كان ينبغي لنا أن نشك في أن الإمبراطورية قد ترد. وقد لمح جارتون آش إلى الأمور التي ستحدث عندما التقى بوتين في مؤتر عام 1994، وكان حينها رئيس بلدية سان بطرسبرغ. وفي نهاية المؤتمر الذي استمر يومين، خرج بوتين عن صمته وقال: «علينا أن نتذكر أن هناك مناطق خارج الاتحاد الروسي كانت تاريخياً دائماً روسية وعلى الاتحاد الروسي واجب تجاهها». وذكر على وجه التحديد شبه جزيرة القرم.
يرى المؤلف أن الاتحاد الأوروبي قوي ومستقر، ولكنه تخلى عن طموحه التأسيسي في التحول إلى الولايات المتحدة الأوروبية، فالهجرة تجعل المجتمعات الأوروبية أكثر تنوعًا ثقافيًّا وقوة أكبر اقتصاديًّا، ولكنها الآن تولد الاحتجاجات الشعبوية والحقد. لقد أصبحت الحدود داخل أوروبا أكثر انفتاحًا من أي وقت مضى، إلا أن أنصار الأممية أصبحوا في موقف دفاعي. ومن الواضح أن آش ما زال مقتنعًا بضرورة الدفاع عن المُثُل العليا للشباب المتمثلة في أوروبا حرة متكاملة ومتنوعة، وتحسينها، وتوسيع نطاقها. ومع ذلك فهو يعترف بأن عمرًا من الكفاح الفكري لتحقيق هذا الهدف لم يكشف عن كيفية تحقيقه.