رقية نبيل
«في مبنى جميل لُقب بالبيت الأحمر، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، عصر يوم أربعاء بارد في 10 مارس عام 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلًا مكونة من قادة صهيونيين قدامى وضابطين عسكريين شابين اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقيًا، وفي مساء اليوم نفسه أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكنة استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكنية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد وهدم بيوت، وأخيرًا زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم مرة أخرى».
بهذه الأسطر بدأ البرفيسور اليهودي إيلان بابيه كتابه «التطهير العرقي في فلسطين»، بهذه الأسطر بدأ يحكي قصة الصهيونية، ويميط اللثام عن إنسانيتها الخادعة، وينزع عنها كل أقنعتها الزائفة، ويهدم خيوط الأكاذيب المنسوجة حولها منذ نشأتها.
من العجيب كيف تحدث أمور قبالة عينيك، كيف تراها كما ترى الكون الماثل أمامك ثم يجري تزييفها ونقضها وتكذيبك من حيث لا تدري! قالوا إنها أرضهم والتاريخ يشهد وأصحاب الأرض شهدون وأنت تشهد أنهم كذبون وأنهم لصوص الأرض لا مالكوها، قالوا إنها وعدهم المقطوع لهم وكتاب الله يخبرنا كيف هجروها وكيف عصوا نبيهم وأبوا دخولها، قالوا إنهم مساكين أبرياء، ضحايا مغفلون، فراشات ترعى في مراعيها قبل أن تفتك بها الوحوش الضارية، وكلنا سمعنا ورأينا وعاينا مرارًا ماذا فعلت هذه «الفراشات» بإخوتنا في فلسطين، ولا زلت أذكر وكأنها حدثت البارحة حادثة إلقاء أحد المستوطنين اليهود عبوة حارقة داخل عربة كانت تقل أسرة فلسطينية إلى المسجد صباح عيد الفطر! وانقلبت الأفراح مأساة إثر وفاة معظم العائلة وتشوه بقيتها!
«بأي منطق يحق لكل يهود العالم الإقامة في فلسطين لأن نسلهم القديم كانوا هناك في حين يُمنع الفلسطيني من دخولها وجده القريب سكن وعاش ودفن فيها؟!» هكذا قال كلمة الحق أحد اليهود المنصفين، وهكذا شهد شاهد من أهلها.
إيلان بابيه هو برفيسور بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستير ببريطانيا، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية، ولد إيلان في حيفا لأبوين فرّا من اضطهاد النازية بألمانيا، كان شابًا طموحًا تواقًا للعمل لأجل بلاده وخدم ضمن عسكرها، حتى عثر على وثائق ذات يوم غيرت حياته وأسقطت كل قناعاته! كانت الوثائق تصف وبالتفصيل المجازر والإبادات والخطط التي رُسمت ووَقعت لتهجير الشعب الفلسطيني ودفن كل من رفض تحت أرضه، زلزلت هذي الوثائق كيان الشاب المتحمس من صميم أعماقه، وفي شجاعة نادرة قرر تدوينها والبحث عن مزيد وتوثيق الحقيقة ونشرها للعالم، طُرد إيلان بابيه من منصبه بالطبع ووُصم كمعادٍ للدولة وتلقى مئات من تهديدات القتل، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه فقط حطّ برحاله في المملكة المتحدة وشرع ينشر كتبه من هناك.
«بعد أن اتُخذ القرار استغرق تنفيذ العملية قرابة الستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يقارب 800.000 نسمة قد اقتلعوا من أماكن عيشهم و531 قرية دُمرت و11 حيًا مدنيًا أخلي من سكانه، وهي خطة تشكِّل مثالًا واضحًا للتطهير العرقي وتعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية».
«لقد أصبح من المستحيل تقريبًا بعد الهولوكوست إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية، والآن في عالمنا المعاصر الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات وتكاثر وسائط الإعلام الإلكترونية وانتشارها لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صنع البشر أو إخفاؤها عن الرأي العام، ومع ذلك فإن هذه الجريمة جرى محوها كليًا من الذاكرة العامة العالمية وهي جريمة طرد الفلسطينيين من أرضهم عام 1948».
«إنها القضية البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل نكرانها وجعل العالم ينساها، إن استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني، بل إن ذلك كما أراه قرار أخلاقي والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة».
«لقد كانت أرض إسرائيل أو فلسطين كما تُسمى في الديانة اليهودية محط احترام وتبجيل على مر قرون من جانب أجيال من اليهود بصفتها وجهة حج مقدسة، ومن أجل أن يحقق المفكرون الصهيونيون مشروعهم طالبوا بالأرض التوراتية واستحضروها أو بالأحرى اخترعوها مهدًا لحركتهم القومية الجديدة، وبحسب رؤيتهم أصبحت فلسطين بلدًا يحتله (غرباء)، ويجب استعادته منهم، وصفة غرباء هنا تعني كل من عاش على أرض فلسطين منذ الحقبة الرومانية، وكانت في نظرهم أرضًا خالية من البشر وسكان فلسطين الأصليين ما كانوا إلا عقبات لا تختلف عن عقبات الطبيعة! ولا شيء، لا الصخور ولا الفلسطينيون كانوا يجب أن يشكلوا عائقًا في الطريق إلى استرداد الأرض التي اشتهتها الحركة الصهيونية وطنًا لها».
وعلى مدار أعوام قبل 1948 يحكي إيلان عن مخطط دراسة شمل كل قرى ريف فلسطين وكانت الدراسة تفصيلية، وشرعت الحركة الصهيونية الوليدة تلملم المتحمسين لها من كل مكان، ورسم المهندسون خرائط دقيقة لهذه القرى وأُرسل المخبرون يتشممون أخبار أهلها وأناسها وجغرافيتها ومصادر دخلها ودرجة عدائها للحركة الصهيونية، وكانت هذه الأخيرة هي المسؤولة عن الكثير من العنف والتعذيب والمجازر التي ارتكبت في عملية التهجير عام 1948 ضد قرى بعينها دون سواها، وكان المسؤولون في الجيش حريصين للغاية على التغلب على أي ضعف قد يعتري الجنود أو حتى المستوطنين اليهود الذين سكنوا هذه القرى فيما بعد ضد سكانها الأصليين، وهو ما أعاد لذهني اعتراف جندي إسرائيلي سابق، حيث قال إنه من المستحيل عليك أن تصبح بريئًا بعد اعتزالك الخدمة، فما ترتكبه هناك ببساطة ينزع عنك براءتك!
وفي أثناء تلك «الفترة البحثية» جرى إعداد قوائم بالمطلوبين الذين قد يشكلون تهديدًا ضد التهجير أو تحديًا بشكل ما، وكان قضاء بريطانيا على ثورة عربية قامت عام 1936 عاملًا مساعدًا للغاية لليهود، حيث أُقصي أغلب القادة المسلمين من الساحة، وبعد التهجير كان يتم تفتيش كل بيت في القرى ويقف رجاله صفوفًا وكل من كان مدرجًا على القائمة جرت تصفيته بالرصاص على الفور.
«وإلى الآن كان إحلال السلام في فلسطين ولا يزال يعني دائمًا اتباع تصور وضعته الولايات المتحدة وإسرائيل من دون أي تشاور جدي مع الفلسطينيين أو أخذهم بعين الاعتبار».
وقرابة العام 1947 انسحبت بريطانيا تدريجيًا من فلسطين، وكان سبب هذا الانسحاب هو تضاؤل القوى الدولية البريطانية وتفضيلها التركيز على أهداف أقرب إليها من فلسطين البعيدة، وبالتالي أحالت شؤون هذا «الصداع الدولي الإسرائيلي والفلسطيني» إلى الكيان الوليد لتوه، والطفل الذي لم يتم عامه الثاني، أي إلى مجلس الولايات المتحدة، وهكذا يتضح لك بسهولة سبب محبة أمريكا لشقيقها الأصغر الذي يكافح من أجل النهوض وإثبات اسمه، ففي حين كانت العلاقة بين إسرائيل وبريطانيا أشبه بعلاقة الحاكم والمحكوم، كان هذان الثنائيان بمثابة شقيقين، يرعى أحدهما مصالح الآخر ويغذيه بمصادر قوته، وإن كانت بريطانيا تحاول الظهور بمظهر المنصف فإن الولايات المتحدة لم تُجهد نفسها قط لتقمص هذا الدور، وكان واضحًا للجميع إلى أي جانب سوف تنحاز دائمًا.
«وخلال أسابيع قليلة أدرك الفلسطينيون أن أوراق اللعبة مرتبة سلفًا ضدهم، وأن النتيجة النهائية ستكون قرارًا يقضي بتقسيم الدولة بين أصحاب الأرض الأصليين وبين مستوطنين وصلوا منذ فترة وجيزة فحسب، فاليهود الذين لم يملكون إلا 6 % من مساحة الأرض ولم يشكلوا غير ثلث السكان فقط أُعطوا أكثر من نصف البلد!، وعلى هذا النحو فإن أعضاء الأمم المتحدة الذين أخذوا قرار التقسيم ساهموا بشكل مباشر في جريمة التطهير العرقي التي كانت على وشك أن تُرتكب».
ويروي إيلان كيف أن ديفيد بن غوريون المتصرف الأول وقتها في تنفيذ الخطة الصهيونية هو من حث قادة بلده على القبول بخطة التقسيم وعلى تجاهلها في الوقت ذاته، إذ كانت طموحات بن غوريون تتعدى التقسيم إلى الحصول على فلسطين كاملة لليهود، ولم يكن لعرب فلسطين أي مكان في دولته الجديدة، وكان القبول بخطة الولايات المتحدة خطوة أولى فقط في خارطته الكبرى، لكنه في الوقت الحالي فرح بانتزاع اعتراف دولي بحق اليهود بالحصول على دولة مستقلة لهم في فلسطين.
ويوضح إيلان كيف أن أشد الخطط حساسية كانت تتم بين زمرة محددة فقط وموثوقة للغاية وبعيدًا عن الأعين، وكانت كل جلساتها تتسم بالسرية ولم يتم تسجيل ما دار فيها إلا نادرًا، وكان من بينها خبراء بالشؤون العربية وهو العنصر الذي اعتمد على وجوده اليهود منذ وقتها وحتى اليوم، لذا تجد الناطقين باللغة العربية منهم إما ظاهرة موالاتهم لليهود وإما مندسون وسط عشرات الأسماء يشعلون نيرانًا صغيرة للفتنة في كل مكان وبين الحين والآخر.
وبينما يحكي إيلان عن عمليات التخويف «الصغيرة» التي كانت تتم في عام 1947 قبيل شهور من النكبة الكبرى لا يصعب عليك أن تلاحظ أن كل الأساليب المتبعة، كل الخطط التي نظمت، كل الطرق التي سُلكت من قبيل (المنشورات الورقية التي تهدد أهالي القرى وتخوفهم بولادة حرب مفزعة ستطير فيها أعناق الأطفال والنساء وتهيب بهم النزوح عن بيوتهم وأراضيهم، أو التسلل إلى القرى ليلًا وإطلاق النيران العشوائية على سكانها الغافلين، أو الاستيلاء على البيوت فور هجر أهلها لها ومنعهم من العودة إليها مرة أخرى، أو جذب الاستعطاف والتمسكن أمام الصحفيين والتلبس بثوب الضحية ودماء الأبرياء لم تجف على يديهم بعد، أو إنكار كثير من العمليات ثم الاعتراف بها لاحقًا وإدراجها ضمن قوائم العمليات الناجحة أو المواطنين الأبرياء الذين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى جنود مسلحين ويكشف كل واحد منهم عن ثكنة عسكرية تكمن تحت بيته)، كل هذه الطرق تشبه تمامًا ما يحصل في غزة اليوم، خطوة بخطوة وطريقة بطريقة، ذات الأسلوب المتعفن المألوف، ذات التمسكن والتذلل المهين، وذات الجرائم التي تُقترف بدماء باردة ودون ذرة من ضمير إنساني!
«ومن بين الطرق التي استخدمت لإرهاب سكان إحدى قرى يافا هي البراميل المتفجرة، حيث كان اليهود يقطنون أعلى الروابي مما أتاح لهم إطلالة ممتازة على القرى الريفية أسفل منهم، فشرعوا يقتنصون السكان أو يشنون غارات عليهم ويفروا مرارًا وتكرارًا، وكانت القوات اليهودية تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات وكرات حديدة ضخمة ممزوجة بالبنزين على الطرقات وتشعله، وعندما كان الفلسطينيون يفرون مذعورين كانت القوات تصطادهم بالمدافع الرشاشة، وفي المناطق التي كان العرب واليهود ما زالوا يتعاملون مع بعضهم كانت العصابات اليهودية تجلب إلى الكاراجات الفلسطنية عربات بحجة إصلاحها لكنها تملأها بالمتفجرات فتنشر الموت والفوضى، وكان يقوم بهذا النوع من المهمات وحدة خاصة تدعى هشاحر مكونة من المستعربين أي يهود متنكرين كفلسطينيين».
وكان أسلوب «فرق تسد» الذي أخذ مستعربو اليهود على عاتقهم تنفيذه من أنجح الأساليب في إضعاف روح المقاومة لدى الفلسطينيين، وكذلك طريقة «أنتم البادؤون» التي أثبتت نجاحها، وكانت تبدأ دائمًا باغتيال اليهود لشخصية لها ثقلها في إحدى القرى الصغيرة، والقيام بكثير من الأعمال الاستفزازية حتى إذا ردت القرية بمهاجمة حافلة لليهود مثلًا يُضخم الحدث ويُصدر للعالم ويُتخذ على الفور ذريعة لتدمير عشرات القرى الأخرى المجاورة والتي لا ناقة لها ولا جمل في كل ما يحدث، وكانت العصابات اليهودية المتفرقة تطوف القرى البسيطة وترتكب فيها مذابح في وضح النهار أو توقف الحافلات وتفتح النيران على ركابها، وتخرج القيادة العليا تدين ما حدث وتقول إنها لا سيطرة لها للأسف على بعض الحوادث الفردية الصغيرة، لكن ابن غوريون يدخل بعد ذلك يافا بعد أن أخليت من أهلها وأناسها ويصف شعوره في مذكراته بأن فرحة عارمة تنتابه وهو يرى كل الأحياء والشوارع والبيوت وقد خلت من العرب، فلا عربي واحدًا يُرى في الأفق! ويشعر إذ ذاك بأنه في موطنه وبأن هذه مدينة يهودية حقة مثل تل أبيب تمامًا، ويجتاحه التفاؤل فهذه الطريقة ستُعتمد على كل نواحي فلسطين حتى تحدث تغييرات هائلة تبقى للأبد!
وكان أهم عامل في الخطة هو سرعة توطين البيوت التي خلت من سكانها واستبدالهم بمواطنين يهود، ومن ثم كانت هناك عصبة أخرى كل عملها هو تشجيع الهجرة لإسرائيل وجلب اليهود الفقراء من كل مكان وتوزيعهم على هذه القرى، ومن المثير للسخرية أن أي قتلى من اليهود والذين كالمعتاد لم يتجاوز عددهم قط معشار ذرة من شهداء فلسطين، هؤلاء القتلى كان يتم تشبيههم دائمًا بأنهم ضحايا هولوكوست ثانية، تخيل هذا حتى قبل كل هذه السنوات كان اليهود يتخذون من هذا الاسم وسيلة رئيسة لجذب تعاطف وسمع العالم إليه! ولذا تم تضخيم اسم الهولوكوست عشرات المرات في أفلامهم وتضخيم أرقام ضحاياها من اليهود. والحقيقة أن عددهم كان يقترب كثيرًا من عدد ضحاياها من المجر والروس أيضًا.
ويتحدث الكاتب عن مجزرة دير ياسين والتي كانت من أوائل القرى التي جرى استهدافها في الخطة دالت، خطة التطهير العرقي للفلسطينيين عام 1948، وكانت كل القرى لا تُذكر بأسمائها ولكن يتم التنويه عنها بأنها «مواقع العدو وقواعدهم» وبالتالي يصبح كل سكانها من شيوخ وأطفال ونساء أعداء لا سكانًا مسالمين، اقُتحمت القرية وأطلقت المدافع الرشاشة على سكانها، ثم جُمع البقية من رجال وأطفال ونساء وأعدموا جميعًا رميًا بالرصاص، وسبق ذلك عمليات اعتداء واغتصاب وانتهاك لنساء وبنات القرية، وخُفض عدد الضحايا من 170 إلى 93، هذا غير عشرات الضحايا الذين لم تتم تسميتهم.
ومن بعد القرى بدأ احتلال المدن بدءًا بطبرية ثم حيفا، وانسحبت القيادة البريطانية تمامًا والتي كانت قد وقفت موقف المتفرج المستمتع طوال شهور المذابح والمجازر هذه، ثم رحلت بهدوء عائدة إلى وطنها بضمير مستريح، وبدأ إرهاب سكان المدن وقتلهم وحثهم على الرحيل والفرار بأسرع وقت ممكن، وكانت الأوامر بسيطة واضحة «اقتلوا كل العرب وأي عربي وأحرقوا كل ما يمكن إحراقه».
«وعندما زارت غولدا مئير وهي إحدى كبار قيادة الزعماء الصهيونيين حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها أن تكبت إحساس الرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ لا يزال على الموائد والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر وكأن الحياة تجمدت في لحظة واحدة، وكانت مئير جاءت فلسطين من الولايات المتحدة التي هربت عائلتها إليها في إثر المذابح المنظمة التي قامت بها روسيا ضد اليهود، وذكرتها المناظر التي شاهدتها يومئذ بأسوأ القصص الكابوسية التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية قبل عقود، لكن ذلك لم يؤثر فيما يبدو على عزمها وزملائها في المضي بخطة التطهير العرقي لفلسطين».
وكما ألفوا دائمًا الخسة والدناءة والخبث وخيانة العهود منذ وجدوا في فجر التاريخ، فإن كل من نزح من سكان حيفا بتعليمات من مكبرات الصوت التي بثها اليهود واجتمع في السوق الفلسطينية التي كانت تطل على الميناء، وحيث تأكد اليهود تمامًا من عدم وجود مهرب آخر غير البحر الواسع، نصبوا مدافع رشاش هاون ثقيلة موجهة للسوق وقتلوا قدر ما استطاعوا « وداس الرجال بعضهم بعضًا وداست النساء أطفالهن وتكدست القوارب بحمولاتها من البشر وكان الازدحام فيها مخيفًا وتحطم معظمها وابتلع البحر مئات الجثث».
ثم وصلوا إلى عكا، وصمدت المدينة الصلبة، صدمت كما صمدت لنابليون من قبل، وبالرغم من اكتظاظها بالسكان النازحين إليها من حيفا فقد قاومت الاحتلال ولما صعب على اليهود دخولها اتجهوا إلى نقطة ضعفها الوحيدة، مصدر مياههم المكشوفة، وتم تلويث المياه بالكامل بجراثيم التيفوئيد، مما أدى إلى تفشي المرض بين أهلها وتفاقم الوضع فيها، ومع تدهور المعنويات جراء المرض وتواصل القصف العنيف الذي لم يكن لينقطع دقيقة استسلم السكان وأضخوا السماع لمكبرات الصوت التي كانت تهتف بلا كلل «استسلموا أو انتحروا، سنبيدكم حتى آخر واحد فيكم»، وهكذا سقطت عكا، من بعدها وقعت يافا وأكثر من مائتي قرية مسالمة أخرى، ويؤكد الكاتب على وجوب ذكر هذه الحقيقة البسيطة، لأنها تدحض الرواية اليهودية والتي تذكر بأن العرب فروا من أراضيهم وتركوها باختيارهم.
«البكاء بصوت مرتفع بينما هم منهمكون في قتل وطرد أناس أبرياء كان واحدًا من التكتيكات المتبعة في الخطة دالت للتعامل مع المضامين الأخلاقية».
ويتحدث الكاتب عن مجازر عين الزيتون وطنطورة والدوادمية حيث كان يتم تقييد المراهقين والشباب ثم يعدمون بالرصاص وأيديهم موثوقة خلف ظهورهم، وكان الرجال هم في عرفهم كل من يتراوح عمره بين العاشرة والخمسين، وفي كل مجزرة لقرية كان يتم الاستعانة بمتعاون محلي يُغطى رأسه ويرشد قوات اليهود للرجال الذين تم ذكر أسمائهم ضمن القوائم التي ضمت أسماء لمقاومين أو أقربائهم أو أي متعاطف معهم، وكان أحد شباب عين الزيتون قد تحدى مرتكبي المجزرة فصفعه قائدهم وأمره باختيار ثلاثين مراهقًا تم ربطهم وإعدامهم بالطريقة ذاتها، وكان السبب في تنامي الوحشية المطرد هذا هو ببساطة امتلاء السجون والمعسكرات بأسرى القرى والمدن، فكان التخلص منهم هو الحل الأمثل، وبالطبع كذلك كان الأمر للنساء والأطفال والرضع، وفي مجزرة طنطورة على وجه الخصوص أعدم مئات من هؤلاء «الرجال»، وتحدث الناجون عن إعدام أكثر من 110 رجلًا وطفلًا، وكانوا يُساقون جماعات صغيرة ويُطلق على رؤوسهم، وكان يحدث أن يأتي أحد الجنود للقائد فيقول له إن ابن عمه قتل فيُسمح له باقتياد مجموعة وإعدامهم، أو أن يأتي أحدهم ويقول أخي قتل فيُسمح له باقتياد مجموعة أكبر بكثير، وكان الجنود الإسرائيليون يراقبون هذه العمليات باستمتاع واضح. ومختصر الأمر أنه جرت تصفية كل الرجال القادرين جسديًا، ومعظم وقائع تلك الليلة رواها ناجون حفروا القبور الجماعية وألقوا بالجثث في غياهبها، وكان يفترض بهم أن يلحقوا بهم لكن وصول أحد قادة اليهود الأعلى منصبًا وإيقافه فورة القتل هذه حال دون ذلك، وكثير من الأطفال الذين شاهدوا آباءهم وإخوانهم يعدمون وقتها فقدوا رشدهم ولم يستطيعوا استعادته قط، فيما حاول البعض عمل مقابلات مع من كان من جند اليهود في طنطورة وقتها وسؤاله عن تفصيلات ما حدث لكن معظمهم رفض الحديث وصرح أحدهم «لا أريد أن أتذكر، أريد أن أنسى ما حدث في هذه الليلة!».
«غير أن الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي بصورة خاصة نجحا في تخليد أسطورة أن الدولة اليهودية الوليدة كانت معرضة لخطر التدمير أو إلى هولوكوست أخرى، هكذا وباستغلال هذه الأسطورة ستحصل إسرائيل في وقت لاحق على دعم هائل من الجاليات اليهودية في مختلف أنحاء العالم، بينما حولت العرب ككل والفلسطينيين بصفة خاصة إلى شياطين في نظر الرأي العام الأمريكي، أما الواقع على الأرض فكان بالطبع نقيض ذلك تمامًا: الفلسطنيون كانوا يتعرضوا لإبادة وإلى طرد جماعي هائل، وفي الشهر الذي كان الإسرائيليون يصفونه بأنه صعب كان الفلسطينيون يحاولون مجرد النجاة من ذلك المصير».
مبتهجًا بالنصر وشرهًا إلى السلطة أكثر من أي وقت مضى، دوّن ابن غوريون في يومياته «عندما نحطم قوة الفيلق ونقصف عمان سنقضي أيضًا على قوة شرق الأردن وعندها تسقط سورية، وإذا تجرأت مصر على القتال سنقصف بور سعيد والإسكندرية والقاهرة، وهكذا سننهي الحرب وسنصفي حساب أجدادنا مع مصر ومع آشور وآرام».
يتحدث الكاتب أخيرًا عن حالات الاغتصاب الكثيرة التي وقعت إبان عملية التطهير العرقي للشعب الفلسطيني وكيف يصعب حصرها بسبب تكتم الضحايا والجناة أو قتل الضحايا فيما بعد، وفي واحدة من أبشع قصص الاغتصاب اختطف الجنود فتاة في الثانية عشرة من عمرها بعد قتل كل أهلها واحتجزوها لديهم لأيام عدة وحلقوا رأسها فيما تناوب اثنان وعشرون جنديًا على اغتصابها قبل أن يقتلوها، ووجدت هذه الحادثة في يوميات ابن غوريون، وحوكم الجنود فيما بعد لكن أقصى حكم صدر بحقهم هو عامان فقط للجندي الذي قتل الفتاة آخرًا، كما تحدث الكاتب عن تقسيم الأملاك الذي جرى بعد ذلك وعن تدنيس الأماكن المقدسة وعن تغيير الأسماء العربية الفلسطينية إلى العبرية والشروع في محو ما حدث من ذاكرة الصحافة العالمية، وكيف اخترعت مئات القصص الخيالية لأراضي الدولة التي عرفت بإسرائيل وكانت القصص المخترعة تزعم أن أشخاصًا عاشوا هنا في الماضي البعيد وهؤلاء الأشخاص كما يصفهم الكاتب دومًا يكونون «عديمي الملامح»، باهتة خلفياتهم، وقصصهم عبارة عن خلط لخيالات وتاريخ مزيف، في محاولة تغطية رائحة الدماء التي سالت دون توقف ذات يوم على هذا الثرى.
حين أفكر أن كل هذا، كل تلك المخططات والتنفيذ والأفكار التي استقتلوا من أجل أن تصبح واقعًا حيًا، كلها كانت تتم منذ منتصف القرن الماضي، أدرك إلى أي حد كانت عملية تشويه والاستنقاص من المسلمين والعرب عملية مقصودة ومتعمدة ومخططة ومرسوم لها بدقة، هكذا صدرت كل الأفلام التي أنتجتها هوليوود العزيزة والتي لطالما مقتناها وعددناها مجحفة لنا كعرب، ولطالما تساءلنا عن سبب تصويرها لنا كأمة ومتخلفة جاهلة لا تدري من أمرها شيئًا، في حين تبدو في أمريكا كل مظاهر التقدم والشجاعة والأناقة وألوان الحب والأزياء المترفة، هكذا يمكننا أن نفهم الصورة كاملة، ونحن اليوم ندفع ثمن هذا التشويه المتعمد، إذ يكفي أن يكتب أحد أعدائنا عن العرب أو المسلمين معلومات مغلوطة حتى يصدقها أغلب المجتمع الغربي، تُرى كم من المال دفعت الحركة الصهيونية حتى ترى هذه الآثار تتحقق لها أخيرًا؟
لكن كما وعدنا الله جلّ علاه وكان وعده حقًا {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فاليوم كل وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها الغرب ضدنا صارت سلاحًا في يدينا نحن أيضًا، ونشأت بين ظهرانينا ثلة كبيرة جدًا مثقفة وواسعة الاطلاع وصرنا نستخدم وسيلتهم هم للدفاع عن أنفسنا وإظهار الحق وإجلائه حتى وصلت أصواتنا للعالم بالرغم منهم، لكننا نظل في هوان حقيقي، لقد سمحنا لهم أن يفوقوننا في كل شيء، وليس ذلك فحسب بل أيضًا أن يؤثروا فينا ويغسلوا أدمغتنا ويجعلوننا نقع في أيديولوجيتهم، نقع في حبهم، حب قاتلينا، وأبغض خلق الله لنا، وأكثر من يسعى بكل ما يملك من مال وتكنولوجيا وقنوات إعلامية لمحونا من على وجه الأرض.