ناهد الأغا
تتعرج الريشة ليستقيم عود قويم بعد انكسار في مجرى القلم، ليتكمل بناء صورة الحرف الجميل في أبهى صوره، وأنماطه، فيظهر ذلك المنظر البهيج المزدهي بتطريزات متناسقة.
الخط العربي الفن الإسلامي الأصيل، الذي ابتكرته وأبدعته الحضارة العربية الإسلامية الأصيلة، واختص وارتبط بها بأقوى الروابط وأمتنها، دون غيرها من الحضارات والأمم الأخرى، وهو حقيقة لرحلة طويلة بمسافات شاسعة في مسيرة الإنسانية وبلوغ أسمى درجات العالمية، الذي يتميز بالأشكال الانسيابية والرسومات الهندسية المعقدة. وهو الفن الذي أطلق عليه الفيلسوف الإسكندري إقليدس بأنه «الفن الروحي».
وفي قمة الروعة ما وصف به الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخط وجماله ورونقه، بقوله: «من وُهِبَ له العقل في نفسه والبلاغة في لسانه والخط في يده والسّمْت في هيئته والحلاوة في شمائله، فقد انتظمت له المحاسن نظما، ونثرت عليه الفضائل نثراً، وبقي عليه الشكر دوما».
فهذا الفن الراسخ، الذي لا يزول مهما تعاقب الزمان، وتداولت الأحداث والأزمان، فهو خالدٌ في النقوش والنفوس، يمضي الوقت، وهو راسخ، وصدق قول الشاعر المعري في قيمة حُسن الخط وأثره:
الخَطُّ يَبْقَى زَمَانًا بَعْدَ كَاتِبِهِ
وَكَاتِبُ الخَطِّ تَحْتَ الأَرْضِ مَدْفُونًا
ولأثر الخط العربي في نفوس أبناء الأمة، التي ينتمي لها، نال نصيباً كبيراً من الإبداع والتفنن، وإدخال العناصر المحسنة حينما تُنسج اللوحات الجميلة، فنجد أشكالا مختلفة ومتعددة من أنواع الخطوط الساحرة في اللوحة الواحدة، التي تكون غنية بالزخارف الجميلة والمبدعة، فقد غدت أنماط الخط زينة فاخرة، تملأ أرجاء ما عُمِرَ من أفخم المباني والمعالم، ليتلألأ البصر وتزداد قيمته وألقه بما يزخر من نقش لحروف ليست كباقي الحروف.
وأقف بتمعن لمقولة القلقشندي، التي تؤكد أهمية الخط وتنميطه وتحسينه في الرسم العربي الأنيق للحروف والكلمات وتأثيره في نفس القارئ، الذي تأسره زخرفة الحرف وجمال الانسياب،ويزداد نظره إليه دون ملل: «الخط كالروح في الجسد فإذا كان الإنسان وسيما حسن الهيئة كان في العيون أعظم وفي النفوس أفهم، وإذا كان على ضد ذلك سئمته النفس ومجتهُ القلوب فكذلك الخط إذا كان حسن الوصف مليح الرصف مفتّح العيون أملس المتون، كثير الائتلاف قليل الاختلاف هشت إليه النفوس واشتهته الأرواح حتى إن الإنسان ليقرأه وإن كان فيه كلام دنيء ومعنى رديء مستزيدا منه ولو كان كثر من غير سآمة تلحقه. وإذا كان الخط قبيحا مجتّه الأفهام ولفظته العيون والأفكار وسئم قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها».
سحرٌ يذهب بالجنان بعيدا، كلما يرى الشخص القباب والمساجد، نُقشت عليها آيات الذكر الحكيم، وقد كُتبت بأجود أنواع الخط العربي المتناسق الكوفي منها والنسخ والرقعة بزخارف وانزياحات وتعرجات، شكلت أزهى المظاهر الفنية مقتفين الأثر البديع، الذي نهجه أولئك الأوائل القدماء ممن ابتدعوا أنواع الخطوط وحسنوها، وجعلوا منه فنا وعلما مكتمل الشروط والأركان، متطورا يواكب الفنون والحضارات والأمم.
كان الخط العربي وما زال وسيبقى صرحا وطيدا عالي البيان، يروي بكل اعتدال حكاية الحضارات الخالدة المجيدة، وروح اليوم اليقظة، وينطق عن أناقة فكر قابع في ضمير ووجدان أبناء أمة أحبت تاريخها وحاضرها.