د.محمد بن عبدالرحمن البشر
منح الله الإنسان القدرة على التأقلم مع محيطه من طقس، وجغرافيا، وبيئة ثقافية واجتماعية، واقتصادية، والإنسان له تاريخ طويل مع التأقلم المناخي والبيئي عبر آلاف السنين، فبعد أن أصبح إنساناً منتصباً عاقلاً، قبل نحو مائة ألف سنة، كانت الأرض وقتها تمر بعصر جليد متأخر، فكان معظم شمال الكرة الأرضية مغطى بصفائح جليدية، لكنه تعامل معها بما ميزه الله به عن سائر الحيوانات وهو التفكير، فاعتمد في طعامه على الصيد، كما أنه استخدم جلود الحيوانات لاسيما الماموث الصوفي كلباس يقيه شدة البرد، مع الاستفادة من الكهوف للحماية من المطر، وشدة البرد.
وإن صح القول بأن ذلك البركان الهائل، المسمى توبا، والذي انفجر في إندونيسيا، قد سبب حجب أشعة الشمس لمدة ألف عام، وتأثرت الأرض بمزيد من البرودة لمدة عشرة آلاف سنة، فهذا يعني صعوبة التأقلم مع هذا الطقس البارد والجاف، ومن المحتمل أن الكثير من أجناس المخلوقات قد اندثرت، وفي ذات الوقت فإن أعداداً كبيرة من الإنسان العاقل، التي كان يبلغ أعدادها ثلاثمائة ألف نسمة، قد فنت، ولم يبق إلا عدد يتراوح بين الألف والعشرة آلاف نسمة، في الحبشه أو ما يقال لها الآن إثيوبيا، وهم أجداد الثمانية مليارات نسمة تقريباً الموجودين الآن، وقد تكاثروا هناك، ثم انطلقوا في هجرة إنسانية جديدة إلى أوراسيا، وأستراليا، وغيرها، بينما وصلوا إلى أمريكا قبل عشرين ألف عام تقريباً، وتأقلموا مع الطقس البارد في شمال القارة، وما فوقها، واخترعوا الإبرة قبل ثلاثين ألف عام لخياطة الملابس المناسبة، والتي تكون أكثر كفاءة في الحماية من البرد، ولهذا فإن الإنسان في هجرته الأولى والثانية استطاع التأقلم، والنجاة من كارثة بركان توبا العظيم.
قبل أحد عشر ألف عام مضى أو أكثر من ذلك بقليل، أخذت الأرض بالدفء، وانحسر الجليد نوعاً ما، وتحسن الطقس في الشرق الأوسط، وبحكم أن الإنسان العاقل لديه القدرة على التفكير والتحليل والاستفادة مما حوله، فقد استطاع الإنسان في سوريا أن يهتدي إلى الزراعة، وهناك من يقول في فلسطين، وكان أول محصول زرعه الإنسان هو القمح، وكوّن عششاً وأكواخاً من جذوع الأشجار والأحراش، فأضحى لديه سكنٌ، وهذا تطلب البقاء وتكوين أسرة، ومن ثم مجتمع بسيط، ثم أخذ في تدجين الحيوان ابتداءً بالماعز والأغنام والكلاب، ثم انتقل إلى الحمير، ربما للمساعدة في التنقل، وهكذا أصبح الإنسان قادراً على التأقلم مع الطقس والبيئة والجغرافيا، معتمداً على عقله الذي يساعده على التفكير.
استمر الإنسان على هذا الحال مدة من الزمن، لكن موجة من الجفاف وقلّة الأمطار أصابت الأرض قبل ستة آلاف سنة، تأثرت بها بعض المناطق الكائنة في الجنوب من أوروبا، مثل الشرق الأوسط والجزء الشمالي من إفريقيا، فتكونت الصحاري ومنها الصحراء الكبرى، وصحراء الجزيرة العربية والشام والعراق، فانفصل المجتمع في شمال القارة الإفريقية عن الجنوب، وكان على الإنسان أن يتأقلم مع هذا الظرف الطارئ الذي لم يعتد عليه، ففعل، وأخذ يعتمد على الزراعة والري أكثر مع شيء من الصيد، واختار ملابس تناسب الوافد البيئي الجديد، استفاد من النار في طهي الطعام والتدفئة، وأخذ يفكر في إدخال محاصيل أخرى في زراعته، وتم له ما يريد.
استطاع الإنسان أن يتأقلم مع الحر الشديد لاسيما في المناطق الداخلية للصحراء، وهناك مثال في واقع حال قبل خمسة عقود مضت، عندما لم يكن هناك كهرباء، وتأقلم الناس مع واقعهم، وكانوا يذهبون إلى حقولهم في الصباح الباكر جداً، ويأخذون قسطاً يسيراً من الراحة عند الظهيرة، ثم يعودون لحقولهم بعد ذلك، ويتعاملون مع واقعهم للاستمرار في الحياة.
الإنسان العاقل بعد أن كوّن مجتمعات خاصة به احتاج إلى التفاهم، فطوّر لغته ابتداءً بالطقطقة، وهي لغة مازالت موجودة لدى بعض القبائل الإفريقية، إلى لغة معقدة لها قواعدها وجمالها الخالص، كما حاول التأقلم مع نسيجه المجتمعي الذي فرضته الظروف، فطور القوانين والأعراف التي تكفل للمجتمع استمرار البقاء، فكان رب العائلة، وشيخ القبيلة، وحاكم المنطقة، ثم طور مجتمعه فصنع حضارات عظيمة، كما في العراق ومصر وسوريا واليونان، وتأقلم مع التضاريس فكانت دويلات المدن على قمم الجبال، كما هي في اليونان وبلاد الشام، أو الحضارات العظيمة في البلاد المنبسطة مثل العراق ومصر.
أصبح الإنسان قادراً على التأقلم مع بيئة الحروب التى صنعها الإنسان بعد أن كون مجتمعات، وأظهر نزعته لحب السيطرة، لكنه بحث عن من يلوذ به عند الملمات للخروج مما يصيبه من أمراض أو ظلم أو فقر أو غيره، فعبد الشمس والقمر والأصنام، وأرسل الله رسله لهداية البشرية وإنارة طريقهم، فاهتدى من اهتدى وضلّ من ضلّ، وتوفرت للإنسان وسائل التنقل فهاجر إلى مناطق وبلدات بعيدة، فتأقلم مع مجتمعاتها وبيئاتها، واليوم يواجه الإنسان إيجابيات الحضارة الحديثة وسلبياتها، وهو في كلا الأمرين يتأقلم معها، ويعيش فصولها حلوها ومرها.