مشعل الحارثي
التاريخ وكما يقال ذاكرة الشعوب والسجل الزمني لأحداثهم المؤثرة، وهو منجم ضخم من الدروس والعبر التي لايستغني عنها كل باحث ودارس في مختلف جوانب الحياة، بل عدّه البعض شكلاً من أشكال الدفاع والمجابهة لأي اختراق لمسخ الهوية والشخصية الوطنية ومحاولات الاستلاب والنفي والإلغاء، وقد سبق أن تناقل الناس تلك المقولة التي تقول: أمة بلا ماضٍ لاحاضر لها ولامستقبل ينتظرها أوكما قيل أمة لاتعرف تاريخها لاتحسن صياغة مستقبلها.
وفي خضم الواقع المحزن والأليم والمربك في آنٍ واحدٍ لما يعيشه إخواننا في غزة الفلسطينية من هجمة عدوانية تجاوزت كل حدود العقل والصبر والعقلانية والتي قد نفقد معها كل ما يتطلبه الموقف من إمعان عميق التفكير وتبصر وفحص لكل تلك الصور الملتبسة والمعايير المتداخلة وضبابية الرؤية والإحاطة التامة بنذر الخطر ومعالمه المحدقة، فقد استدعتني هذه الظروف القاسية لإخواننا في غزة لأقف عند عبرة وصورة ناصعة من ملاحم القوة والصمود في بلاد الأندلس المفقود التي امتد عمرها لثمانية قرون ولايزال الغرب حتى يومنا هذا يقتات على منجزاتها وذخائرها وكنوزها العلمية والفكرية والإبداعية والفنية والمعمارية التي لاتقدر بكنوز الدنيا والتي تشير بكل فخر واعتزاز لفضل المسلمين على الغرب.
وفي تفاصيل تلك العبرة والدرس التاريخي أنه بعد سقوط طليطلة بيد (الفنسو) السادس ملك قشتالة وليون هدد المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية بكل جبروت ووقاحة وعندما أحس ابن عباد بالخطر والإهانة وأنه لاخيار أمامه سوى المواجهة وجه رسالة لابنه الرشيد قال فيها: (أي بني أنا في هذا الأندلس غريب بين بحر مظلم وعدو مجرم وليس لنا وليٌّ ولا ناصر إلا الله تعالى، فها هو الفنسو ياولدي قد رفع رأسه إلينا فإن نزل علينا كما نزل بطليطلة فسوف يقتلنا أو يجعلنا رعاة لخنازيره، وأنت ياولدي تخشى أن يسلبني ابن تاشفين ملكي؟ وإني لا أسالك بالله أيهما أشرف لأبيك أن يرعى الخنازير في قشتاله أو يرعى الإبل لابن تاشفين في مراكش؟
وعندما وقعت هذه الرسالة في يد يوسف بن تاشفين لبى نداء المعتمد بن عباد، وعلم الفنسو بذلك التحالف فوجه خطاباً متعجرفاً لابن تاشفين قال فيه: (سمعت أيها البدوي الذي لايعرف شيئاً عن قتال صناديد قشتالة أنك تنوي السير إلينا فرأينا أن نكفيك العناد ولانكلفك التعب فأنا قادم إليك حيثما كنت رفقاً بك وتوفيراً عليك، وسترى حين ستواجه جيوشي هذا إذا لم تفر بمن معك قبل اللقاء - إن معي من الرجال من أستطيع أن أهزم به الإنس والجن فماذا تكون أنت أمامي أيها البدوي الصحراوي؟
فقال ابن تاشفين هذا خطاب طويل يدل على قلة عقل من كتبه فاكتبوا ردّي عليه على ظهر كتابه وهو لايزيد على ثلاث كلمات (الذي يكون ستراه)، وعندما وصل الخطاب الفنسو نزل على قلبه كالصاعقة فتحرك سريعاً مستنجداً بولاة الأقاليم والبابا في روما ليستخدم نفوذه مع أمراء جنوب فرنسا قائلاً له: ياصاحب القداسة لقد بلينا برجل يؤثر العمل على القول إني لأخشى إن لم نصده أن يظهر على أوروبا كلها وينشر رايات الدين الإسلامي على فرنسا وإيطاليا، ولقد كانت لابن تاشفين وجيش المرابطين الكلمة الفصل في معركة الزلاقة التاريخية التي تعتبر أول معركة شهدتها شبه الجزيرة الإبيرية في العصور الوسطى وإحدى المعارك الكبرى في التاريخ الإسلامي حيث مني فيها الفنسو بشر هزيمة، وكان لها نتائجها وآثارها الكبيرة على المسلمين ومن أهمها أنها مدت في عمر الإسلام بالأندلس إلى نحو قرنين ونصف من الزمان.
وفي هذا الصدد وتداعي المواقف والعبر أيضاً فلقد ذكرني تلويح إسرائيل مؤخراً باستخدام السلاح النووي ضد المدنيين العزل في غزة بتلك الحكمة القديمة في تعليم المبتدئين في السباحة والتي تقول (ارفس حتى لاتغوص) وتهديدها باستخدام السلاح النووي ليس جديداً، فقد سبق لها في حرب أكتوبر المصرية أن هددت بذلك بعد إدراكها حجم هزيمتها الفادحة وانكشاف حقيقة أمرها وأنها لم تعد هي القوة الوحيدة الضاربة في منطقة الشرق الأوسط، وشرطي الأمن القادر على حماية مصالح أوروبا الغربية والقارة الأمريكية، لذلك فهي الآن وعلى ضوء مامنيت به من فضيحة أخرى مدوية بتاريخ 7 أكتوبرالماضي تحاول الرفس بكل قوة وتسعى لطمس آثار تلك الواقعة الأليمة التي تسببت لها في خسائر كبيرة على كافة الجوانب، وما تعيشه سلطتها العسكرية ومستوطنوها من توتر نفسي وانهيار معنوي وفشل ذريع في تحقيق أهدافها من وراء هذه الحرب الظالمة وغير المتكافئة إلا اللجوء لوسائل الإعلام الغربية والأمريكية والعميلة ووسائل التواصل الاجتماعية المختلفة ولتزييف الحقائق وتضليل الرأي العام، ومحاولات الإرجاف ونشر الأكاذيب والابتزاز السياسي لدول المنطقة، وهي محاولات يائسة بائسة مكشوفة تشبه محاولات الرفس ماقبل الغرق والاحتضار، ولله الأمر من قبل ومن بعد.