كيف عشت وتعاملت كمواطن سعودي عربي ومسلم مع القضية الفلسطينية من (كامب ديفيد) و(مؤتمر القمة العربية) بـ(بيروت) إلى شهر التطبيع؟ إنّ القضية الفلسطينية بدون أدنى شك - هي قضيتنا الأولى كمسلمين وعرب وسعوديين؛ فقد عشنا طفولتنا متشبعين بحقوق أمتنا في أرضها التي سلبت منها بدون حق، وكبرنا بإحساس عالٍ بالمسؤولية تجاه قضية فلسطين ونتبرع لها باعتزاز منذ طفولتنا كطلبة، فلم أنس ريال الطالب وما يقدمه المواطن والحكومة من دعم منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا.
عشت في دولة أعزها الله وكرمها وشرفها بخدمة دينها ومقدساتها وأمتها, دولة منذ أن وحدها وأرسى قواعدها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن والقضية الفلسطينية وعلى رأسها القدس الشريف هي قضيته ومطلب دولته. فكما يثبت التاريخ في مقولاته ورسائله لم يقف أحد بصدق مؤمناً بقضية أمته كما وقف المؤسس العظيم، وقد رأينا ذلك في مقابلته مع الرئيس الأمريكي روزفلت عندما قال له: إنه يعارض استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين وشراء الأراضي من قبل اليهود وأنه يتعين على اليهود، أن يحصلوا على مساكن للعيش في دول المحور التي اضطهدتهم، بدلاً من فلسطين. وهكذا كانت مواقف أبنائه ملوك المملكة العربية السعودية من بعده. ولا ننسى الملك سعود - يرحمه الله - حين حضر مؤتمر «أنشاص» بمصر عام 1948م وزار القدس وقال: لا والله لن نودع فلسطين ونحن فينا عرق عربي واحد ينبض.
وكان للملك فيصل - رحمه الله - الموقف الكبير، في إيمانه بالقضية دعم باتخاذ القرارات الحاسمة، وعلى رأسها وقف تصدير النفط، وكذلك إيمانه ورغبته المعلنة والدائمة في خطاباته بأنه لن يتوقف حتى يصلي في القدس المحررة. وكذا كان الملك الصادق الملك خالد - رحمه الله - مؤمناً بالقضية العادلة، وقد جمع الأمة وكان صادقاً في بيت الله الحرام عندما طلب منه أبو عمار أن يقسموا، فقال لهم: كيف تريدون أن تقسموا في بيت الله وأنتم تكذبون، هل تريدون أن تكذبوا على الله سبحانه وتعالى؟
إن المملكة العربية السعودية لم تقف أو تتوانَّ في دعمها للقضية الفلسطينية، ونرى ذلك في صدق الطرح وإجماع الدول العربية عليه، فما كان في قمة الرباط عام 1982م عندما تقدم الملك فهد بمبادرته - يرحمه الله - إلا إكمالاً لمسيرة أسلافه. وكذلك الملك عبد الله - يرحمه الله - في مبادرته بقمة بيروت عام 2002م. وأخيراً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في مؤتمر القمة بالظهران عام 2018م الذي أطلق عليه (قمة القدس).
تعاملت مع القضية الفلسطينية كإنسان يعيش في وطن مواقفه ثابتة وصادقة أساسها مكانته في قلوب المسلمين، ورسالته واضحة ونقية كمهبط الوحي وحاوٍ لأقدس بقاع الأرض مكة المكرمة والمدينة المنورة، يطالب ببيت المقدس وبحقوقنا في ثالث الحرمين الشريفين كل هذا حرك في قلبي مشاعر عكسها تعاملي مع القضية كشخص، معبراً بمقترحات وأفكار تحولت وبلورت طريق حياة أعتز بها كإنسان. وفي عام 1993م كانت بدايات ردود فعلي نحو قضيتنا بإيمان وصدق في الطرح. وعندما كنت في الحرس الوطني مسؤولاً عن القطاع الغربي وكانت المسؤولية تشمل منطقة مكة المكرمة والمدينة المنورة، بدأ إحساسي بأهمية العلاقة بين تلك المدينتين والقدس الشريف.
وكان أمامي في المكتب لوحتان معلقتان فنيتان تمثلان المدينتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) من إبداع الفنان (ضياء عزيز ضياء)، وعندما تابعت وقائع الاجتماع في كامب ديفيد وجرى ما جرى، وبعد أن عاد ياسر عرفات، ورأيته وهو يخرج جيبي سترته، قائلاً: «إنّه لا أحد يساعده»، تحركت مشاعري وأحسست أن قضيتنا القدس الشريف، ولا يعول على تلك القيادات. وقررت أن تكون هناك لوحة ثالثة تكمل رسالتنا في هذا البلد الأمين، فأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، يجب أن تكمل لوحتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، فطلبت من الأخ ضياء أن يُكمل عمله الفني ويرسم اللوحة بحالة تعبر عن وضع المسجد الأقصى، ومرت الأيام، وظل إطار اللوحة لعدة أشهر معلقًا على الجدار، وهو مطرز بعبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله قبل أن تكتمل اللوحة عشت مع هذه المشاعر الفنيّة لفترة من الزمن متشبعاً ومؤمناً بأن هناك عاملاً مشتركاً يحتم علينا الوقوف، كما آمنت قيادتنا دائماً أن قضية فلسطين ومكانة بيت المقدس هي قضيتنا الكبرى. أتذكر غلاف النيويورك تايمز، وعليه صورة الاجتماع والمقال الذي أثار شيئاً في نفسي تجاه قضيتنا الأم. ومن هنا كانت البداية لقصتي وقضيتي.
بدأنا في عام 1996م باجتماع مكون من ستة أشخاص، رفعنا على إثره إلى المقام الكريم رسالة مقترحين فيها مشروع «أنابيب السلام». فالسلام في الشرق الأوسط، هو من أهم المشاكل التي تواجه المنطقة عامة والقدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهو من أهم المسؤوليات التي ستدخلنا في عملية السلام وما يترتب عليها. من هنا يجب أن نتحدث بلغة العصر ونخاطب العالم كندٍّ ونوضح مسؤولياتنا تجاه السلام؛ وذلك بالاهتمام بتطوير المنطقة ودعمها بمقومات السلام، وليس بالحديث فحسب، ولكن بالعمل لإيجاد وخلق تلك المقومات التي يتطلبها عصر ومقوماته كعامل مهم ليعم السلام والأمن والاستقرار. وأقرب مكان ننطلق منه لترسيخ مقومات عملية السلام، هي المنطقة الشمالية الغربية، وأعني بها (منطقة تبوك). هذه المنطقة التي تزخر بإمكانات فائقة استراتيجياً؛ فكونها غنية زراعياً، وتقع على مقربة من البحر الأحمر، ولديها ميناء جاهز، كما أنها تمتلك مخزوناً كبيراً من الغاز، يجعلها المكان المناسب لتطبيق تلك الأفكار، أو النظرية التي نطرحها أمام الملك عبدالله - رحمه الله -.
فأهم عوامل السلام تكمن في تطوير المنطقة التي يراد أن يقام فيها السلام ببنية اقتصادية صحيحة من أهم عواملها:
1- الماء
2- الوقود
3- الكهرباء
وبما أننا سنصل إلى عملية السلام عاجلاً أم آجلاً بحكم إمكانياتنا الاقتصادية والمالية، وأهم من ذلك مكانتنا الدينية كمهد للإسلام وتأمين لمقدساته، فسوف ندفع ثمناً لأمننا واستقرارنا، وكذلك لأمن المنطقة واستقرارها.
ومن هنا أرى وجوب تبنينا لرؤية مستقبلية تتماشى مع متطلبات العصر، واللغة التي يتحدث بها، فلو أثبتنا للعالم أجمع على وجه العموم وللمنطقة على وجه الخصوص أننا لا نتحدث - فقط - عن السلام، بل نُؤْمِن أهم العناصر التي تُكوّن المعنى الحقيقي للمجتمع الذي ينشد السلام ويمكن أن يعمم ذلك السلام والأمن والاستقرار من خلال تمكين الدول المجاورة التي تتقاتل من أجل السلام المنشود بأن نقدم لها ما تحتاجه من خلال توفير الماء والوقود والكهرباء وذلك كالآتي:
1 - بناء محطات تحلية تكون من أكبر محطات العالم.
2 - استغلال المخزون من الغاز كوقود سواءً محلياً؛ لتطوير تلك الصناعات أو مدّه من خلال الأنابيب كوقود للمنطقة. - إقامة محطات كهربائية كبيرة؛ لتغذي المنطقة من خلال محطات التحلية، أو استخدام الغاز لإنتاج الطاقة المرجوة. فكل تلك العوامل هي أساس النمو والتطور، وهي أساس الأمن والاستقرار؛ لأنها تخلق الفرص للنمو والتطور والعمل، وتمكين مواطن المنطقة من فرص العمل المناسبة في عملية السلام.
فإيجاد وتبني هذه الفكرة ومقوماتها الثلاث هي المدخل إلى القرن الواحد والعشرين، وذلك بتطوير منطقتنا الشمالية الغربية، وإعطائها أهمية عالمية كمنطقة تغذي السلام ببنائها كحائط أمني اقتصادي يدعم المفهوم العالمي للأمن والاستقرار، وخلق فرص عمل لأبنائنا وأجيالنا المستقبلية و لكي يكون زمام المبادرة بأيدينا، وأن نتحكم في (صنبور الحياة) فنقفله أو نخفف من تدفقه متى ما أردنا، ونبادر بذلك إلى مخاطبة العالم باللغة التي يتعامل بها ويفهمها، ونكون بذلك قد عملنا بكل جهدٍ وحقٍّ لتطوير عملية السلام لنا ولدول المنطقة.
وبتبني هذه الفكرة سنبدأ مفهوماً جديداً نشارك فيه العالم الاقتصادي في بلورة هذه الأفكار بالاستثمار المالي فيها؛ لإقامة تلك المشاريع العملاقة، وبذلك نكون قد أشركنا دول العالم في عملية السلام، وكذلك حفظنا وطننا بمحافظتهم على استثماراتهم المالية في وطننا ومنطقتنا.
فالمحصلة الرئيسة هي أن نساهم قبل كل شيء في حفظ الأمن والتطور، وبذلك ندفع ثمن السلام المنشود بشيء ملموس للجميع، بل وللعالم أجمع على أسس اقتصادية متينة نتحكم فيها، ويشاركنا العالم في المحافظة عليها باستثماراته فيها؛ حيث العالم مبني على المصالح المشتركة.
لقد تعرفت عن قرب عندما كنت أعمل في الحرس الوطني والاستخبارات، على أشخاص وأحداث لها علاقة بالقضية الفلسطينية، ومنهم ممثلو فلسطين في المملكة. وكانت لي لقاءات عدة مع الشيخ أحمد ياسين، وذلك عندما أصر الملك عبد الله -يرحمهم الله- أن يعالج في مدينة الملك عبد العزيز الطبية بالحرس الوطني بجدة. هذا وقد كان لي شرف معايشة الأحداث، بدءاً بالرحلة المشهورة للملك عبد الله عندما زار الرئيس جورج بوش في مزرعته بتكساس، وأطلعه على (فيديو مجزرة جنين)، وبعدها حضورنا مؤتمر القمة العربية ببيروت عام2002م ، عندما تقدمت المملكة بمبادرة السلام العربية، ثم في عام 2007م عندما جمع الملك عبد الله القيادات الفلسطينية بمكة المكرمة؛ ليوحد مسيرتهم، وقال لهم بأسلوبه الصادق الأمين عن وحدة الأمة: إخواني إذا أشكل عليكم شيء، فانظروا من هذه النافذة إلى التفاف هذه الأمة الموحدة وموحدة في بيت الله الحرام، وكان يعني بأسلوبه المبسط أن هناك 360 درجة متاحة للتوصل إلى توافق بينكم لجمع كلمتكم، وهو الأمل لحل القضية الفلسطينية التي هي قضيتنا وقضيتكم.
هذا ما تقدمنا به آنذاك إيماناً منا بأهمية السلام لمنطقتنا ولأمتنا، وحفاظاً على أمننا واستقرارنا من خلال تنمية الإنسان والمكان باستغلال ثرواتنا التي وهبنا إياها المولى - جلَّ وعلا لخدمة رسالتنا للعالمين التي أساسها إعمار الأرض وقدسية مكانة الإنسان؛ حفاظاً على مكتسباته في عملية البناء المستدام للبشرية جمعاء.
وهذا ما أؤمن به الآن إذا أردنا حلولاً دائمة مستدامة، وأبدية وسلاماً دائماً يخدم أمننا واستقرارنا، أساسه إيماننا بمسؤوليتنا - كوننا - ولله الحمد- بلداً للحرمين الشريفين وقبلة المسلمين تجاه أمتنا الإسلامية ومقدساتها، متمثلة في أولى القبلتين وثالث الحرمين، وتجاه مكانتنا العالمية، فنحن نحمل رسالة سلام وأخوة، مساهمين ومشاركين بإمكاناتنا لخدمة الأمن والاستقرار لإنساننا وعالمنا.
كان ولازال ارتباطنا بقضايا أمتنا ومكانتنا بين دول العالم دعاة للأمن والاستقرار هو ما يحرك توجهاتنا من خلال إستراتيجيتنا التي أساسها تنمية الإنسان والمكان.
فمنذ عهد المؤسس إلى يومنا هذا، نرى ذلك يتبلور تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده، فما نعيشه الآن متمثلاً في رؤية 2030، هو ما يقودنا إلى المكان والمكانة التي نحن أحق بها بين دول العالم.
** **
- بقلم: الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود