عبدالرحمن الحبيب
استخدم مفهوم الهوية في التراث العربي الإسلامي ليعكس دلالات عدة، إلا أنها تتمحور حول: مطابقة الشيء لنفسه، تمايز هذا الشيء عن الشيء الآخر. وفي هذا المعنى، يقرر الجرجاني أن الهوية هي: الأمر المتعلق من حيث امتيازه من الأغيار، وهذا يعني أن الهوية من حيث دلالتها اللغوية هي كالحد أو التعريف: «جامعة مانعة»؛ فهي جامعة لسمات الشيء الذي تعبِّر عنه الهوية.. ومانعة من دخول سمات الشيء الآخر (ركن التمايز أو التفرد).. وهذه دلالة محورية في مفهوم الهوية، بل يمكن القول: إن هذه الدلالة هي التي تمنح هذا المفهوم «مشروعيته الوجودية»، أو لنقل «نجاعته المفاهيمية»؛ إذ بدونها تتداخل الأشياء والمجتمعات والأوطان وتتماهى؛ مما يهدر قدرتنا على تحقيق التمايز الواجب بين المتغايرات، تغايراً بوجه أو بآخر، ومن ذلك تغاير الوطن (أ) عن الوطن (ب).
هذا مما جاء في الباب الأول، الفصل الأول، من كتاب جديد بعنوان «الهوية الوطنية السعودية.. ثوابتها وآفاقها الإنسانية»، عن منشورات مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، لمؤلفه الباحث والمفكر عبد الله البريدي بروفيسور علم الاجتماع.
رغم أن الأدبيات تزخر في تناول الهوية الوطنية، إلا أنه يندر أن نعثر على كتاب يلم شتاتها في إطار منهجي واضح المعالم، فهي السهل الممتنع.. سهل تناولها على الألسن كافة، عصيٌّ توضيحها على البحث الموضوعي. من هنا يتصدى المؤلف لهذه المهمة في مغامرة بحثية جادة علمياً وأنيقة أدبياً، عبر مقاربة علمية متوازنة هادئة؛ مجافية للنزعة الإنشائية، والعاطفية الدعائية؛ علَّها بذلك أن تُسهم بقدرها في بلورة ماهية الهوية الوطنية السعودية، وبيان أبعادها وتعريفها، وتجلية مرتكزاتها ومغذياتها، واستكشاف الفرص والتحديات التي تعرض للهويات الوطنية الحديثة في تلك السياقات المركبة المربكة..
أيضاً، يروم هذا الكتاب - كما جاء في المقدمة - تقديم وثيقة وطنية موضوعية دقيقة حيال تجربة المملكة العربية السعودية؛ بدينها السامي العظيم الملهم، وقيادتها السياسية الرشيدة الحكيمة، وتراثها وثقافتها وآدابها الثرية المتنوعة، وتاريخها العريق التليد الممتد.. ففي ثلاثة أبوب، يتناول الكتاب قضية الهوية الوطنية في سياقات الدولة الحديثة والعولمة وثورة التقنيات وشبكة الاقتصاد والتحديات المعاصرة المتنامية، مسلطاً الضوء على البعدين النظري والتطبيقي.
البعد النظري يعالج المفاهيم المنهجية للهوية: مفهوم الهوية عموماً، والهوية الوطنية، ومناهج دراستها، كما جاء في الباب الأول.. ففي سياق تحديد المفاهيم في هذا الباب يوضح المؤلف الوطن في اللغة - كما في مادة «وَطن»- يشير إلى معاني الاستقرار والسكن والإقامة والألفة، يقال: وطَنَ فلان بالمكان: أقامَ به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطنًا، ووطَّنَ فلان في المكان، أي: أسكنه فيه، ووطِّنَ البدوي، أي: جعله يتخذ المدينة مسكناً عوضَا عن السفر والترحال، أي: حضَّره؛ ولهذا فإن الدلالة الرئيسة في مادة الوطن هي الاستقرار واتخاذ المكان وطنًا للإنسان. وفي الاصطلاح يحيل مفهوم الوطن إلى ثلاثة معانٍ متكاملة، هي: الأرض، الشعب، الحكومة، بما يجعل الوطن حاضنًا لمجتمع إنساني، متّصفٍ بمقومات وخصائص..
في الباب الثاني يأتي الجانب التطبيقي متناولاً الهوية السعودية على وجه التحديد، ومُقارباً مسائل: العروبة، والإسلام، والإنسانية؛ والمواطنة والانتماء والولاء؛ متوخيًا بلورة الهوية الوطنية السعودية، من جهة ماهيتها ومرتكزاتها. بعد أن يتناول المؤلف في هذا الباب، تعريف الهوية السعودية من المنظور الديني والتربوي والنفسي والاجتماعي، يقترح تعريفاً للهوية الوطنية السعودية (المنظور المتكامل): رابطة شعوريةٌ بالانتماء الدائم للوطن السعودي بثوابته الدينية والجغرافية ورموزه السياسية، نابعةٌ من أسس: لغوية وثقافية وتراثية وإنسانية مشتركة؛ من شأنها خلق مجتمع: متحد متضامن مستقر متمايز، نابض بـ: الإباء والولاء والفداء والعطاء، بما يبقي الوطن: قويًا شامخاً نامياً مبتكراً، والعالم: آمناً مستقراً متعايشاً متضامنًا.
في الختام يأتي الباب الثالث متناولاً الفرص والتحديات وفاعليتها التي يمكن أن تعرض لأي هوية وطنية حديثة؛ عبر آفاق الثبات والتغير في الفضاء الهوياتي الوطني، إشكاليات الهوية والقبيلة/ العائلة/ الطائفة، وما قد يحمله كل ذلك من تحديات وتهديدات للوحدة واللحمة الوطنية، لتلقي بأضواء كاشفة على مسارب تفعيل الهوية الوطنية في السياقات الإنسانية والعالمية.. راسماً في كل ذلك ملامح رئيسة في وجه التجربة السعودية الرائدة.
من سياقات الباب الثالث، مقاربة تأرجح الهوية وأزمتها، تأتي ملاحظة أن إريك أريكسون (عالم النفس التطوري) قد استخدم مفهوم «أزمة» كما استعمله الصينيون، فهي تحدٍ وفرصة معاً، خاصة للشباب؛ حيث إنهم قد يوفقون لبلورة هوية سليمة ومن ثم يصبحون عناصر فعالة منتجة، وقد يفشلون في ذلك؛ مما يورطهم في فوضى الهوية وتشتت الدور، مع ما يصحب ذلك من شعور بالدونية والعجز والإحباط واللامعنى.
ما تقدم يمثل عرضاً مبتسراً لكتاب من 150 صفحة، اعتنى فيه البريدي - كعادته في مؤلفاته - أيما عناية بالجانب المنهجي الصارم، وطرح الأطر للمفاهيم في كل فصل، مع التفسير والشرح لفك الالتباس المحتمل للمصطلحات والمفاهيم. ورغم صرامة المؤلف المنهجية فإنه لم يتخل عن جماليات اللغة بل مارس البلاغة في أسلوب أدبي راقٍ وصياغة أخاذة، مع طريقة فذة في التحليل، فهو لم ينساق لجفاف لغة البحث العلمي كما يحصل في كثير من المؤلفات الأكاديمية.