في مقالةٍ له نهاية العام 2019، صنّف الكاتب الأمريكي ديفيد إغناشس الفلسطينيين «كأحد أكبر الخاسرين في التاريخ الحديث، لاعتمادهم على الوعود الأمريكية بإنهاء احتلال «إسرائيل» للأراضي التي أخذتها بالقوة بعد حربي عام 1967 و1973».
وقد أصاب إغناشس في وصفه حينها كبد الحقيقة، فقد عاش الفلسطينيون عقوداً من الإذلال والسطو على حقوقهم الوطنية المشروعة، تخلّلها وعود أمريكية بإقامة دولة فلسطينية، كان المقصود بها إدارة الصراع عوضاً عن حلّه، وذلك ما سارت عليه الإدارات الامريكية المتعاقبة؛ بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم، التي تتقمّص دور راعي عملية السلام منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
بصعود الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب إلى سدة الحكم بداية عام 2017، تغيّرت المعادلة، حيث إن إعلانات ترامب المتتالية، من إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، والجولان أرضاً خاضعة للسيادة الإسرائيلية، وإعلانه الحرب على اللاجئين والأسرى والشهداء والجرحى؛ كلها ضربت عامل الزمن في مقتل، لتبدو مقولة «من الحب ما قتل» أفضل توصيف لهذا الحب الأمريكي الأعمى للكيان الإسرائيلي.
فرغم الأوضاع الصعبة التي فرضتها الإدارة الأمريكية على القيادة الفلسطينية، إلا أنها وفّرت عليها الكثير من المد والجزر في محادثات ومفاوضات طويلة الأمد، لا تُسمن ولا تغني من جوع.
ومع عودة الديمقراطيين إلى الحكم في العام 2021، والمعروفين تاريخياً بتأييدهم حل الدولتين -نظرياً- لم يُقدّم الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ تنصيبه، أي رؤية لحل القضية الفلسطينية، وقد عبّر عن موقفه فيما يخص حل الدولتين خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الفلسطيني محمود عباس، على هامش زيارته مدينة بيت لحم بتاريخ 15 تموز- يوليو 2022، بقوله: إن «خيار حل الدولتين هدف بعيد جداً الآن»، وهذا موقف ضبابي ينذر بوجود صيغ مختلفة عن السابق، يتم تداولها في الأروقة الأمريكية.
ومع انسداد الأفق السياسي، وازدياد السياسات والإجراءات الاسرائيلية توحّشاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة، في ظل سطوة اليمين المتطرف، وغياب رؤى ومبادرات أمريكية أو دولية للتقدّم في أي مسار سياسي، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات العالمية، جاء السابع من أكتوبر 2023، ليطبّق المثل العامي الذي يقول «إن ما كبرت ما بتصغر»، وليضع النقاط على الحروف، ويذكّر المجتمع الدولي بمسؤولياته التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني الذي ما زال يرزح تحت أطول وآخر احتلال في العالم.
ولعلّ تغريدة الممثل الأمريكي ميل جيبسون، تعقيباً على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب في غزة، تلخّص الواقع الراهن، والتي قال فيها: «سيزولون قريباً، لذلك يدمرون كل شيء في طريقهم! كل العالم اكتشف حقيقتهم».
فها هم يدمرون الحاضر، ويشوهون المستقبل، والولايات المتحدة الأمريكية ومن معها من الدول الغربية تجنّد لغزة أعتى الأساطيل الحربية، بعد تداعي الحلم الصهيوني والمثال العسكري الذي لا يقهر!، وتحاول جاهدةً فرض ديكتاتورية الرواية الواحدة، حتى وصل الأمر إلى التصويت على قرار داخل الكونغرس الأمريكي لتوبيخ النائبة رشيدة طليب بسبب «تغريدة»!، في دليل على انتصار الحقيقة الفلسطينية، مقابل إفلاسهم أمام «الكلمة» و»التغريدة» و»البوست»، التي باتت ترعبهم وتزلزل كيانهم.
ومن المفارقة أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ريغان، كان يقول «الشر ضعيف إذا كان الصالح لا يخاف»، فها هم الفلسطينيون يزلزلون محور الشر بشجاعتهم، ومن هنا يجب الاستمرار بإعلاء الصوت، والمطالبة الفاعلة بالحقوق الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرّف، فمكانة القضية الفلسطينية تنطوي على المطالبة الفاعلة، ومجرد الطموح لا يكفي لتحقيق مكانتها الطبيعية المستحقّة.
لنرفع الصوت عالياً: انتهى عقد الإذلال والسطو.. ولن نكونن من الخاسرين بعد اليوم.
** **
فادي أبوبكر - كاتب وباحث فلسطيني