أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
التوهّم باب من أبواب شجاعة اللغة، وهو اعتقاد أصالة حرف زائد أو زيادة حرف أصلي، ويسميه بعضهم الغلط أو المشاكلة.. ومنه قول العرب: (مَرحبَكَ) الله و(مَسْهَلَكَ)، توهّموا أصالة الميم في مرحبًا ومسهلًا، فاشتقوا منه فعلًا رباعيًّا حملًا على باب دحرج.
ومن ذلك (مَسِيلٍ) وهي اسم مكان على وزن (مَفْعِل) من: سَالَ يَسِيلُ، وقياس جمعها: مَسايِل؛ ولكنهم توهّموا أصالة ميمها؛ فحملوها على راء (رَغِيفٍ) فقالوا في الجمع: أمْسِلَة ومُسْلان؛ كقولهم: أَرْغِفَةٌ ورُغْفَان، وهو من الغلط، ولا تغترّ بقولهم مُسُل فإنّه مبني على ذلك الغلط، أعني التوهّم.
ومنه قولهم: (مَياسِمُ) في جمع: مِيسَمٍ؛ وهي آلة الوسم أو أثر الوسم؛ فأصله (و س م) ولكنّهم قالوا في جمعه: (مِياسِم) على توهّم أصالة الياء.
ومن أقدم ما ورد من الإشارات الصّريحة عن (التّوهّم) ما عزاه سيبويه للخليل في جمع مُصِيبة، قال: فأمّا قولهم: مَصائِب فإنّه غلط منهم، وذلك أنّهم توهّموا أنّ مُصِيبة فَعِيلة، وإنّما هي مُفْعِلة، قلت: قوله: «فإنه غلط» لا يعني أنه لحن، بل هي لغة صحّت عنهم، لكنها نشأت من غلط أي من توهّم.
وقال ابن جني: كان أبو علي الفارسي يقول: إنما دخل هذا النحو في كلامهم (يعني الغلط أو التوهّم)؛ لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها، ولا قوانين يعتصمون بها. وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد.
وأقول: التوهّم أو الغلط وجه من أوجه شجاعة هذه اللغة التي تتيح لهم اعتساف اللفظ على غير وجهه، فيُقبل منهم ويجري مجرى الفصيح من كلامهم، ولعلّ أشهر توهّماتهم أو اعتسافاتهم قولهم من المِسكين والمِدرعة: تَمَسْكَنَ وتَمَدْرَعَ، ومنها قولهم من الريح: (أرياح) وإنما هي أرواح، لأنها من راح يروح، وقولهم من العيد: (أعياد) وإنما هو أعواد، وهذا التوهم غاية في الحسن؛ لأنه فكّ اللبس بين جمع الرِيح والروح، وكذلك جمع العِيد والعُود، مع أنّ كليهما واوي.
والتوهّم باب لطيف ودقيق وغامض أحيانًا، متغلغل في اللغة، وهو سماعي لا يقاس عليه عند علمائنا قاطبة متقدّمهم ومتأخّرهم، وأنا أخالفهم جميعًا وأقيس عليه عند الحاجة، وشرطي فيه رواج اللفظ، فكلّ ما راج وشاع على ألسنة المتكلمين والكتّاب العرب وانتشر وكان له نظير من قياس أو شذوذ أو توهم فهو مقبول، فكما جاز للسلف التوهم جاز للخلف مثله، واللغة لا تقف عند عصر من العصور، والذكاء والفطنة والقدرة على تطويع اللغة ليست حكرًا على جيل دون غيره.