د. محمد بن إبراهيم الملحم
نسمع كثيراً عن خطط ونوايا خصخصة التعليم، ويظن كثيرون أنها تمثل حلا لمشكلات التعليم قياسا على تقدم المدارس الخاصة (أو الأهلية) وهو تصور غير صحيح، وقد سبق أن كتبت عن ذلك قبلا في هذه الزاوية بعنوان «خصخصة التعليم: نعم أو لا؟» هذا رابط حلقتها الأولى https://www.al-jazirah.com/2016/20161027/ln29.htm وهنا الثانية https://www.al-jazirah.com/2016/20161103/ln28.htm ووضحت أن الخصخصة ليس حلا تعليميا فهي وسيلة اقتصادية أو إدارية لا أكثر. نعم قد تنجح الخصخصة في تحسين بعض أنواع الخدمات الحكومية غير التعليم ويلمس المواطن فائدة هذا اللون من التحول، بيد أن التعليم مسألة أخرى ومعادلة مختلفة، وقضية التعليم وتحسينه ليست مع الخصخصة بالذات وإنما هي مع منهج التغيير، فالتغيير لأجل التغيير لا يجدي مع التعليم طالما أنه لم يحدد ملامح واضحة لمعالم التقدم الذي سيحدثه هذا التغيير وهذا التحديد لا يكون من بنات الأفكار فحسب وإنما يكون مبنيا إما على دراسات محلية قديرة وذات كفاءة يعتمد عليها أو بناء على تجارب مماثلة ومطابقة وهو ما يكاد أن يكون عسيرا في مجال التعليم الذي يتسم بارتباطه بالمتغيرات السوسيولوجية كثيراً ويتفاعل معها ويتأثر بها بشكل كبير جدا، وهي متغيرات لا تتشابه أبدا فيما بين الدول والبيئات التي تستقى منها التجارب.
المهم أن التغيير في النظام أو الكيان التعليمي هو المشكلة ذاتها أكثر من مسألة تأخر جودة التعليم، وأقصد بذلك أنك حتى تنهض بمستوى الخدمة التعليمية فاترك الكيان التعليمي على حالته من حيث أنظمته وتكويناته وهويته، ولا تحدث تغييرات مربكة disruptive فهذه ليست لمثل هذا الكيان وإنما لغيره ممن وصل إلى حالة استقرار نسبي ويحتاج إلى التطوير، أما الكيان التعليمي الذي يحتاج إلى تدخلات تحسينية حاسمة في أسس بيداغوجية أو جوانب أساسية فلا ينبغي أن يتعرض لأي تغيير من هذا المستوى والأفضل له بقاؤه على حالته الراهنة لكي يمكن التركيز على جهود التحسين التي يفترض أن تستهدف الأسس والقضايا الحاسمة.
اللا مركزية أيضا تشترك مع الخصخصة في هذه المناقشة، فمع أن اللا مركزية مبدأ مطلوب ويسرع من الإجراءات ويسهل من الخدمات إلا أنها ليست بالضرورة حلا لمشكلات التعليم الفنية، نعم قد تتحسن الخدمات اللوجستية التي يحتاجها التعليم وقد تكون سرعة الإجراءات سببا لارتياح العاملين في التعليم لكن هذا لا يرتبط بتحسين جودة ما يقال في غرفة الصف ولا بالممارسات التدريسية أو حسن تفعيل المختبرات والورش المدرسية ولا بتجويد نتائج المخرجات الدراسية، فهذه كلها تحتاج أنشطة تطوير معينة ليست بالضرورة من لوازم اللا مركزية، بل قد تقدم المركزية نتائج أفضل فيما لو تمكن الجهاز المركزي مثلا من تقديم برامج وأنشطة فعالة جدا وقررها على الجميع فعندئذ انتشرت العدوى الجميلة وحصل التحسن المطلوب في كل الكيان لكن عندما تكون هذه الجهود متروكة لكل قطاع (في ظل الخصخصة أو اللا مركزية) وهو حديث على هذا المجال فلا يمكن ضمان الاتساق وربما تقدم بعض القطاعات تحسينات عرجاء أو سلبية لا ترتقي بالمستوى بل تنخفض به أكثر.
الخلاصة أني لست مع الخصخصة ولا ضدها ولست مع المركزية ولا ضدها وإنما أقول إن أي كيان تعليمي في حالة معينة ولديه شكوى من تأخر المستوى النوعي فعليها البقاء في حالته الراهنة والعمل على جهود التطوير فالكيان الذي هو يعيش في حالة الخصخصة مثلا فليستمر كما هو دون تغيير من حالته هذه لغيرها حتى يركز في جهوده وأنشطته التطويرية ويرتقي بمستواه النوعي، ونفس الكلام يقال عن الكيان الذي هو في حالة حكومية مركزية فعليه البقاء في حالته ولا ينتقل للخصخصة (مع الاعتراف بحسناتها الكثيرة) حتى ينتهي من تطوير ذاته نوعيا أو يقترب من ذلك بشكل مرض ليفكر بعد ذلك في أي تغيير في هويته ومجاله.