د. تنيضب الفايدي
كلّف الكاتب من قبل هيئة السياحة والتراث الوطني بمهام توثيق فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيبر ميدانياً، وكلّف معه الباحث الأستاذ صيفي عيسى الشلالي، وكانت البداية من المدينة المنورة حتى خيبر حيث تم رصد المواقع التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد حددت المواقع التي مرّ بها صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر من الغابة بالمدينة المنورة حتى وادي الرجيع شمال خيبر بـ(34 موقعاً) بالأدلة، ومن تلك المواقع (سد الصهباء) ثم بقايا مسجد الصهباء الذي صلى به رسول لله صلى الله عليه وسلم جنوب خيبر القديمة، وهو من المساجد الموثقة، سواءً في المصادر التاريخية أو كتب الحديث، وانطلقا من موقع المسجد وجعلا خيبر القديمة بأكملها تقريباً على اليمين وسلكا بعض الأودية غرب خيبر وشمالها الغربي وشمالها، ومن تلك الأودية وادي مرحب الذي ورد في السيرة مع بعض الأودية الأخرى ويسمى حالياً (مُعَان)، وهذا الجزء من الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم لفتح خيبر - وقبلها قد فتح القلوب صلى الله عليه وسلم وغرس بها الإيمان- حتى وصلا إلى المقر الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية المعركة أمام حصن ناعم (يسمى حصن العاصمية حالياً) من الشمال وقد غطي هذا الموقع بالبنيان (قرية أبي الوشيع) وعند مرورهما من الشمال الغربي تعمقاً في مسار بعض أودية خيبر واختصاراً لتلك الأودية نذكر بعضها:
وادي الغرس: يأتي من الجنوب حيث يخترق بلدة الثمد التي يأتيها من الجنوب الشرقي، ثم يلتف جنوب جبال الصهباء حيث يقترب من جنوب وغرب خيبر، ووادي الغرس وادٍ شهير تقع عليه بعض المآثر، منها: سد الصهباء ويطلق عليها العوام (سد البنت) وهو سد شهير جاء ذكره في صحيح البخاري، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة التمس غلاماً من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال ثم قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها ثم صنع حيساً في نطع صغير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ثم خرجنا إلى المدينة قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه ثم نظر إلى المدينة فقال اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم.
ومعلوم أن سد الصهباء من أشهر السدود حيث يبلغ طوله 250 متراً وارتفاعه يصل إلى 30 متراً. وهو مشيد من أحجار غير مشذبة وأضيفت عليها طبقة من الملاط من الجهة التي تحجز المياه، ويأخذ السد شكلاً متدرجاً وتزداد سماكته عند القاعدة وتقل في الأجزاء العليا، والسد مدرج من كلا جانبيه، ولا توجد في السد بوابات تصرف المياه التي تحجز خلف السد، مما يدل على أنه كان يحجز خلفه بحيرة كبيرة تؤدي إلى رفع منسوب المياه في حرة خيبر، وهو بمثابة دليل أثري على التقدم الذي أحرزه العرب في مجال هندسة البناء خلال عصور ما قبل الإسلام وبعده.
كما توجد عليه - وادي الغرس- بعض المواقع الأخرى، علماً بأنه وادٍ دائم الاخضرار، أما أشهر أودية خيبر فهي: وادي النطاة، وادي الكتيبة، وادي خاض، وتلتقي جميع أودية خيبر في وادٍ واحد، ثم يلتقي معها وادي الغرس فتشكل جميع الأودية وادياً واحداً تصبّ في وادي إضم القادم من المدينة المنورة، وعند التقاء مجمع أودية خيبر مع وادي الغرس يوجد ما يشبه البحيرة يحتفظ بالماء يطلق عليه (غدير الطير)، وغدير الطير محطة استراحة لأسراب الطيور المهاجرة للتزود بالماء أثناء هجرتها، وقد شاهدت مجموعة من الطيور ومنها أسراب طيور القطا، وهذا ذكرني قول الشاعر:
شَكَوتُ إِلى سِربِ القَطا إِذ مَرَرنَ بي
فَقُلتُ وَمِثلي بِالبُكاءِ جَديرُ
أَسِربَ القَطا هَل مِن مُعيرٍ جَناحَهُ
لَعَلّي إِلى مَن قَد هَوَيتُ أَطيرُ
فَجاوَبنَني مِن فَوقِ غُصنِ أَراكَةٍ
أَلا كُلُّنا يا مُستَعيرُ مُعيرُ
وتشكل الجبال حوله مع أشجار الوادي منظراً بديعاً، كما أن الجبال المحيطة بغدير الطير ملفتة للنظر وفريدة في تكوينها مع جبال الصخور وتطابقها، حيث يبدو كلّ جبل كأنه من طبقات، كلّ طبقة على الأخرى ومستقلة عنها ويطلق عليها جبال (الطِّبق)، وأكثرها إثارة أنك تجد طبقة من تلك الطبقات بنية اللون والطبقة التي تحتها طبقة بيضاء مما يجعلك تظن بأن طبقات الجبل عبارة عن بنيان وأن ما بينها (خلطة من النورة أو الإسمنت الأبيض)، لكنّ ذلك خلقه الله هكذا، فسبحان الله العظيم، وغدير الطير منطقة جميلة لوجود الماء واخضرار الأشجار والجبال ذات الطبقات (جبال الطِّبق)، إن غدير الطير من المواقع السياحية الجميلة.