فهد صالح العبدالواحد
لا يمكن أن ترى طالب طب في عام 2023 يقرأ كتاباً صدر منذ عام 2021، ففي هاتين السنتين، تطور العلم، وتغيرت المعلومات، وتوفرت معلومات أحدث، ولكن في علوم أخرى مثل الفلسفة السياسية، نرى طلابها يقرؤون كتبًا من مئات السنين، مثل المقدمة لابن خلدون.
لا شك بأن هذا دليل عبقرية كتاب «المقدمة»، ولكن، كان هناك عباقرة كتبوا عن الطب قبل مئات السنين، ثم جاء علماء عصرنا وطوروا تلك الأفكار، وأصبح الاطلاع على الأعمال الطبية القديمة للاطلاع التاريخي فقط.
ورغم ثبات عبقرية كتاب المقدمة، فلن يكون هناك ثروة لمن يكتب عن الفلسفة السياسية أو ما هو نحو ذلك في هذه الأيام، ولكن المجد سيكون لمن يأتي بشفاء للسرطان.
لذلك، تتطور العلوم التي يمكن أن تشكل مصدر عمل، وينشأ منها وظائف لطلاب العمل.
السؤال المحير: ماذا لو كان ابن خلدون موجودًا بيننا اليوم، هل سيكتب المقدمة، أم سيصبح ناقدًا سينمائيًا متفرغًا لمشاهدة أحدث الأفلام؟
لم يذهب الذكاء، ولكن ذهب أسلوب الحياة، الذي كان يشجع على الإبداع.
أجرى بعض العلماء تجربة علمية، يضعون فيها بعض الأشخاص في غرف فارغة، كل شخص في غرفة لوحده. لا يوجد في الغرفة إلا زر، إذا تم ضغطه، شعر الضاغط بصدمة كهربائية. وجدوا أنه بعد ربع ساعة، 66 %من الأشخاص يضغطون الزر، وهم يعلمون ما هي النتيجة، وذلك فقط لشدة مللهم.
حين يمل الإنسان، يبحث عن أي وسيلة لمكافحة الملل. ربما كان الشغف العلمي في ذلك الوقت هو الوسيلة الوحيدة لمكافحة الملل، إذ فقد ملَّ القارئ من علم النحو، فذهب إلى التاريخ، وبعد التاريخ، إلى الأدب، الخ.
ولكن في يومنا هذا، لا يمكن ن يمل الإنسان. يستطيع الإنسان بضغطة إصبع بأن يطوف العالم من هاتفه الجوال، فهل تسبب ذلك في سعادة الإنسان أم في الضعف الفكري وزيادة الأمراض النفسية؟
وجود قطاع الترفيه حول العالم والذي أصبح موردًا اقتصاديًا يشابه قطاع النفط أضاف عوامل إيجابية غير ملموسة. إذا ملَّ الإنسان من الموسيقى، ذهب إلى الأفلام، ثم الألعاب الإلكترونية، الخ.
هل كان للفراغ الموجود قبل تطوير الترفيه والرياضة دور في لجوء البعض للمخدرات والدخان؟
إذا علمنا أن البعض قد «يعذب» نفسه بالكهرباء من شدة الملل، فما بالك إذا وجدت وسيلة غير مؤلمة؟
ماذا عن تطور الموسيقى؟
لا شك أن تطور الموسيقى في عصر بيتهوفن، أو ظهور فولكلور خالد مثل الموشحات الأندلسية قد لا يتكرر، وذلك لأسباب عدة.
أعتقد أن قيمة تلك المقطوعات الموسيقية كانت أعلى من قيمتها في الوقت الحالي. في ذلك الوقت كان الشخص المهتم يدفع مالاً لكي يحضر حفلة في مكان مناسب ويسمع العزف الموسيقي الذي يناسب ذوقه.
أما اليوم فإن المقاهي تفرض عليك أنغامًا قد يتم تصنيفها بأنها «مزعجة»، فقط ليتم وضع «موسيقى»، وبصوت عالٍ في المطعم أو المقهى.
ورغم أن كثيراً من الزبائن يصنفون ذلك على أنه تدخل غير مناسب في مزاج الشخص واستمتاعه بطعامه وشرابه، ولا علاقة له بحب الشخص للموسيقى من عدمها، حيث هي اختيار أولًا وأخيرًا، يعتمد على الذوق الشخصي مثل قائمة الطعام في المطعم. ولذلك يعتبر البعض من الناس أن الاختيار الموسيقي مثل اختيار وجبة الطعام في المطعم، يجب ألا يتم فرض اختيار الوجبة التي يراها الشيف مناسبة لك. وبالطبع، لن يشتري أحد تذكرة لحضور حفلة موسيقية، حتى لو كان بيتهوفن نفسه سيشرف على العزف، في حال لم يكن نوع الموسيقى مناسبًا لذوقه.
وأعتقد أنه لو كان الفنان محمد عبده بنفسه في أحد المطاعم، لما أعجبه جميع ما يتم بثه، وأحيانًا قد لا يكون لديه «مزاج» ليسمع الموسيقى، وحتى لو كانت أغنية من أغانيه.
هل تسبب فرض الموسيقى على الناس، أو إرغامهم على سماع «ذوق» شيف الطعام الموسيقي، في انحدار مستوى الحس الموسيقي في عصرنا الحالي؟
لا شك أنه لدى الجميع وسائل سماع الموسيقى حسب اختيارهم، ليناسب ذوقهم، فهل هناك دور للموسيقى في إظهار نكهة الطعام؟ لا أعرف.
أتمنى أن يكون لهيئة الموسيقى دور في تطوير هذه اللغة العالمية، بعيدًا عن التشوه السمعي الذي نعيشه في بعض الأحيان.