محمد سليمان العنقري
حرب إسرائيل على غزة جريمة كبرى تُرتَكب بحق المدنيين، فقد استُغِلتْ الهجوم الذي قامت به حماس على إحدى المستوطنات لكي تتجاوز كل الخطوط الحمراء في تنفيذ حرب إبادة وتهجير وتدمير للمنازل والبنى التحتية والمرافق العامة، تهدف من خلالها لتحقيق أهداف توسيع رقعة المساحات المحتلة وتغيير على أرض الواقع سيزيد من معاناة سكان القطاع لعقود قادمة. فهذه الهجمة الشرسة من إسرائيل على غزة ليست الأولى فهي الرابعة خلال 15 عاماً وفي كل مرة تزيد من واقع القطاع سوءًا حتى بلغت البطالة فيه 45 بالمائة، ونحو 80 بالمائة من السكان حول خط الفقر ويحتاجون لدعم بالسلع الأساسية، كما أن ضعف الأمن الغذائي تصل نسبته إلى 65 بالمائة. فهذه الأرقام تعبِّر ليس عن واقع سكان غزة فقط بل عن ما تفعله تل أبيب بهم من خلال الحصار والتضييق والاستفزاز المستمر ودعم كل ما يسهم بإضعافهم وتكريس البؤس والإحباط لديهم حول واقعهم ومستقبلهم.
لكن هذه الحرب أثبتت العديد من الحقائق التي كان بعضها محل خلاف حول مفهومها وتباين في الآراء حولها، فأولها أن إسرائيل كيان غاصب محتل لا يفقه في السياسة إلا اسمها، فكل ما تفعله هو الابتعاد عن السلام الذي يقوم على حل الدولتين، وإذا كانت تعتقد أن ذلك ليس خياراً أو توجهاً ضروريًا لها بحكم أنها وقعت اتفاقيات سلام مع دول عربية فهي مخطئة، لأن الحل الحقيقي الذي يمنحها السلام والقرب السياسي والاقتصادي من المنطقة لن يتحقق إلا بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية تمنح الشعب الفلسطيني حقوقه وتحيي الأمل لديهم ليكون لهم وطن خاضع لإدارتهم وله كامل السيادة، فإسرائيل تثبت أنها قائمة على عقلية تؤمن بالحروب فقط فحتى اسحق رابين رئيس وزرائهم الذي كان مؤيداً لاتفاقيات السلام ووقع اثنتين منها رغم أنه عسكري سابق ولا يخلو سجله من الأعمال الحربية ضد الفلسطينيين قام متطرف إسرائيلي بقتله نتيجة لتوجهاته نحو السلام الذي كان يرى فيه السبيل الوحيد لأمن إسرائيل ومستقبلها. أما الحقيقة الأخرى فهي أن ورقة التوت سقطت عن المجتمع الغربي وحكوماتهم حيث أمنوا غطاءً سياسياً خصوصاً باستخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرار يطالب بإيقاف الحرب لتنفذ إسرائيل هجومها، وكذلك دعموها عسكرياً ومالياً ومنعوا أي مظاهر دعم لأهل غزة في بلدانهم وحتى الاحتجاجات الشعبية على أعمال القتل للمدنيين بغزة من أطفال ونساء ومسنين قُمعتْ ومُنعت، وزار إسرائيل أغلب زعمائهم دعماً لها، فعدد القتلى المدنيين تجاوز 11 ألفاً ثلثيهم أطفال ونساء مع عشرات الآلاف من الجرحى وهدم آلاف المنازل وتهجير أكثر من مليون نحو جنوب القطاع مع خروج كامل للمستشفيات بشمال غزة عن الخدمة ومع ذلك تجد مسؤولين أمريكيين ينصحون إسرائيل باستخدام قنابل أقل تدميراً لتقليل قتل المدنيين، فالمشكلة لديهم ليست بقتلهم بل بتخفيض العدد فقط ولذلك كل مسؤول غربي يتبجح بحقوق الإنسان سيرد عليه بأنك كاذب وكنت تدعم القتل بغزة للأبرياء.
أما وسائل الإعلام الغربية فأغلبها أبواق لإسرائيل وتنشر رواياتهم الكاذبة وتحاول التشكيك بكل ما يصدر عن الدمار والقتل بغزة، وحتى الجامعات والشركات والأندية الرياضية في الغرب دعمت إسرائيل وبعضهم فصل ووقف أي موظف أو لاعب يبدي تأييدًا لأهل غزة واستنكاراً للأعمال الوحشية لإسرائيل بخلاف تقديم بعضهم الدعم المالي لها، وهو ما يظهر حقيقة كذب وزيف الادعاء بحرية الرأي لديهم، أما وسائل التواصل الاجتماعي فبعضها يمنع أي منشور ينتقد إسرائيل على جرائمها أو يدعم أهل غزة. كما كشفت هذه الحرب مدى خطورة الانقسام في القيادات الفلسطينية واختلاف توجهاتها والأثر السلبي لذلك على القضية الفلسطينية، كما أن من اتضحت حقيقتهم من شكلوا ما يسمى بمحور المقاومة فلم يقيموا سوى المهرجانات الخطابية والدعوات للتظاهر والفوضى بالعالم العربي دون أن يقدموا الدعم الحقيقي الذي لطالما وعدوا به لدك إسرائيل وتدميرها باستثناء بعض المناوشات لذر الرماد بالعيون، بل تنصل أغلبهم من عملية حماس التي سببت هذه الحرب وادعوا أنهم لم يعلموا بها، أما بعض المثقفين العرب فلم يخرجوا من عباءة الحقبة الشعبوية القائمة على الشعارات الفارغة دون أي رؤية للواقع المعاصر وللظروف الإقليمية ومحاولة العودة لمرحلة القرارات الارتجالية والتي أدت لخسائر فادحة للدول التي اتخذت قرارات مواجهة إسرائيل على أساسها.
حرب غزة مأساوية وشعبها من يدفع الثمن وليس من يسكنون الفنادق في الخارج من قيادات حماس ويدعون الشعوب العربية للتمرد والتظاهر، فهي دعوة لتدمير الأمن القومي العربي، أو أولائك المتمددين أمام أجهزة التلفاز وبيدهم الهواتف الذكية الغربية الصنع ويستخدمون التطبيقات الأمريكية ليطلقوا صواريخ تغريداتهم ومنشوراتهم التحليلية المثيرة للسخرية وأغلبهم لم يتبرع بدولار واحد لدعم غزة ومع ذلك ينتقدون حراك الدول العربية المعتدلة التي تقوم سياستها على التعامل بواقعية مع هذا الحدث الجلل وتعمل على وقفه ومنع امتداده واتساع حجم الكارثة وكسر الحصار الذي بدأ عملياً وخصصت مئات الملايين من الدولارات للأعمال الإنسانية العاجلة، وتم البدء بإدخال المساعدات للقطاع مع حراك دبلوماسي نشط ليس فقط لوقف الحرب كأولوية قصوى حالية بل الذهاب سريعاً لمفاوضات السلام على أساس حل الدولتين والانتقال لمرحلة الاستقرار وإنهاء الاحتلال.