د. إبراهيم بن جلال فضلون
«متحف البراءة» و»سجن في هواء ممنوع»، كان باباً لـ»طوفان الأقصى»، ثُم انهيار للشتات اليهودي، محولاً عالمنا لـ»مقبرة أطفال»، والسبب معلوم، «أمراض انتقامية»، تحول من لم شتات إلى مشروع قتل من أجل القتل، في حقيقة لا مفر منها.. بأن إسرائيل بيت من شمع في متحف من البراءة.. كما في رواية غير بريئة، تتخيل سياساتها الماسونية الصهيونية، لكنها لا تستطيع أن تقضي على بيتاً من حجارة قلبهُ «صخر» كالمقاومة الفلسطينية أو غيرها حتى ولو بالعنف، تماماً كما لا يستطيع الفلسطينيون أن ينتصروا في حرب تحرير على الطريقة الجزائرية، أو الملحمة المصرية، لكنهم فعلوها بقلة قليلة نصرهم الله بوعده، وكأنني أمام رواية (متحف البراءة) المنشورة عام 2008م، للكاتب (أورهان باموك) الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006م، وكأنما براءة الفعل المُحتل متحف من البراءة، فالرأي العام العالمي مُنقسم بين من ينظر إلى هجوم حماس باعتباره «عملاً إرهابياً غير مبرر» وهم الأقلية، وبين أكثرية يرون أن هجوم حماس هم بمثابة رد طبيعي على عقود من سوء معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وأن الفظائع الإنسانية ارتكبت بمجازر لم تراع ذرة من حقوق الإنسان في غزة، بل أهانوا مجلس الأمن والأمم المتحدة والقوانين الدولية، وأهانوا رأسها «غوتيريش».
لقد اعترف بنو نسلهم، بل والرأي العام الغربي في دول القارة العجوز باحتجاجات ومظاهرات حتى في الداخل الإسرائيلي الذي يُطالب باستقالة نيتنياهو لاسيما بعد هفواته وزلات لسانه وتحميل اللوم لقادة الجيش ثُم اعتذاره، وكذلك على لسان وزيره بالضرب النووي لأهل غزة -مُصرحاً عن امتلاك الاحتلال للسلاح النووي، وأنه أحد الخيارات-، مع العنف، العنف فقط ولا بديل، في تاريخ له وجوه مُتعددة، يُوثق عُنفه بيده الدموية وأفعاله الإرهابية، واتهام الماسونية اللا أخلاقية في سياقها ونسبيتها، في عدم فهمهم لحقيقتهم ومواقفهم التاريخية على طريق الإدانة الأخلاقية القوية والسياسية البلهاء، دون أن يخشوا من أحد متحولين من دواخيلهم وفي نظر الآخرين، إلى سادة في الإخفاقات الأخلاقية المتواطئة في الجرائم البشعة منذ أن خلقهم الجبار.. وهُم يتخذون من قواعد أممية ضربوا بها عرض الحائط دون حراك بشري حتى! أمام الفصل العنصري والحكم الاستعماري وانعدام الجنسية.. لدى إسرائيل إجابة واحدة مرعبة ومروعة على هذا السؤال، بإجابات أخرى متعددة التلوين مناهض للفكر وحاضره، بل وواقعه المُعيش لـ «وضع الأمور في سياقها» كنشاط مثير للإشكالية الأخلاقية، ووضع العنف البشع في سياق مُنحرف عن أساسه «العنف للعنف»، أو ما هو أسوأ من ذلك، فعندما تزعم لجنة التضامن مع فلسطين بجامعة هارفارد أن «نظام الفصل العنصري هو المسؤول الوحيد» فهي ليست وحدها، بل معها أصوات الداخل الإسرائيلي وحتى شياطينهم رقت قلوبهم من هول المذابح وجعل غزة التي تكالبت عليها الأمم وبوارجها وأسلحتها وقواتها «مقبرة للأطفال»، حتى أنهم لا يهُمهُم أسراهم من الإسرائيليين لأنهم لم يتعبوا في تربيتهم، بل جاؤوا بهم فقط للموت، وهذا يعني أنه يتعين علينا توسيع العدسة إلى ما هو أبعد من اللحظة الراهنة المروعة، دون إنكار رعبها، التي تشوهه وسائل إعلام غربية، فضحتها الآلة الصهيونية وكانت حجارة الأيادي البريئة بفلسطين سبباً في إلقاء الرعب والخوف فيهم وفي كشف زيفهم، مهما أوتوا من ألاعيب وعتاد لم يُقدم جديداً سوى تفاصيل من الفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني منذ عقود من تفجيرات وهجمات عشوائية واعتقالات وقتل. إذا كانت أهوال الأيام الأخيرة تكتسب أهمية أخلاقية أكبر بالنسبة لوسائل الإعلام من أهوال السنوات السبعين الماضية، فإن الاستجابة الأخلاقية لهذه اللحظة تهدد بحجب فهم المظالم الجذرية التي تعاني منها فلطين المحتلة والفلسطينيون المهجرون قسراً - فضلاً عن الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح التي تحدث في هذه اللحظة في غزة.
إذاُ ليعرف الجميع، بل عرفوا، أين يبدأ هذا الرعب وأين ينتهي؟ إذا فُهمت غزة على أنها تحت الاحتلال، أو «سجن في هواء ممنوع»، لا تكتسب القدرة على الحياة لمن قُتلوا في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة هذا العام أو خلال سنوات الاحتلال أو خلال شهر فقط بعد «طوفان الأقصى»، وتجربتها الفريدة من التوقيت والنصر بيد قلة من آلاف عنصر أمام جيش كان من أكبر جيوش العالم وأول جيش بالمنطقة، لكن ليست القوة بالعتاد والسلاح والتقنيات التي تم اختراقها حتى ولو كان الذكاء الاصطناعي الذي فرحوا به، بل إن القوة في الإيمان ووحدة الصف.. وهي المسألة المحسومة، والقاطعة، وإذا كان الفلسطينيون «حيوانات»، كما يصر وزير الدفاع اليهودي، فلما ترتعدون وتتبولون على أنفسكم خوفاً، وإذا كان الإسرائيليون يمثّلون «الشعب اليهودي المُختار» كما يصر بايدن الإرهابي الأول (انهيار الشتات اليهودي في إسرائيل، وكما يطالب الرجعيون)، فإنه الشعب الوحيد الذي يجب أن يلوم نفسه أولاً وأخيراً، في مشهد «الحرب الدائر منذ 65 عاماً»، حولها الإدانات الأخلاقية فعلاً واضحًا ودقيقًا دون فصال، بارتكاب المزيد الوقاحات، التي تفعلها الآلة العسكرية الإسرائيلية وعقولها «الخربة»، التي دعا وزير فيها باستخدام النووي أمام شعب يدافع عن أرضه، وكذلك خطاب نتنياهو الذي يدعو إلى الإبادة الجماعية للفلسطينيين، دون تكافؤ، فأين حداد العالم عليهم؟
لا يمكن تصور أي مستقبل للحياة وسلميتها الحقيقية - وليس «السلم» كتعبير لطيف لكلمة «السلام». وليس التطبيع كلمة لترك الحقوق الأصيلة، وعدم الحفاظ على هياكل المساواة والحقوق والابتعاد عن العنصرية أياً كان مكانها، ولتحقيق هذا الهدف، نحتاج إلى أقلامنا التي ننادي عليها وحالمينا وقبلهم قادتنا العرب والإسلاميون أن ينتفضوا، ضد الحمقى الجامحين، الذين يعرفون كيف يقهروننا ويخططون إلى تنظيم أنفسهم.
باختصار: الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ شعبي إسرائيل وفلسطين، ويمنع حدوث نكبة أخرى، هو الحل السياسي الذي يعترف بهما كمواطنين متساوين، وهو البعيد عن الحدوث في ظل جائحة «الأمراض الانتقامية» التي تتحور في المجتمع والنفس اليهودية الماسونية.