فهد عبدالعزيز الكليب
بدأ الاستثمار الأمثل بالإنسان السعودي في عهد مبكر بعد توحيد المملكة العربية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيَّب الله ثراه- وتحديداً في عام 1351هـ (1932م) بعد الإعلان الرسمي لتوحيد المملكة العربية السعودية، وبداية العمل الجاد لبناء الدولة السعودية المعاصرة.
إذ كانت الرؤية المتقدمة، والطموحة تختمر في ذهن وفكر الملك عبدالعزيز، فبدأ اهتمامه بالتعليم وقبل إعلان توحيد المملكة بـ(7) سنوات عندما أنشأ مديرية المعارف العامة للإشراف على النهضة التعليمية في البلاد في غرة رمضان من عام (1344هـ)، والتي عهد إليها بالإشراف على التعليم بشقيه العام والعالي، والمتابع للتاريخ يلحظ بوضوح بعد نظر، وحكمةٌ، وحنكة الملك المؤسس -رحمة الله- ونظرته الثاقبة والتي استشرفت المستقبل لتأسيس مشروع بناء دولة حديثة، تقوم بإعداد الإنسان السعودي وتأهيله عن طريق التعليم، فأطلقت أول نواة للتعليم العالي بالمملكة في عهده - طيَّب الله ثراه - قبل (ثمانية وسبعين) عاماً عندما أصدر أمره الكريم في عام 1367 هـ بافتتاح كليتي الشريعة واللغة العربية في مكة المكرمة كنواة أولى للتعليم الجامعي، كما أن في عهد جلالته - رحمه الله - أطلق أول مشروع للابتعاث وشمل أكثرُ مِنْ (مئةٌ) طالب في عامهِ الْأُولِ تم ابتعاثهمْ إِلَى الجامعات المصرية لدراسة العديد من التخصصات، إضافة إلى ابتعاث (ستة عشر) طالباً إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة في أرقى جامعاتها في ذلك الزمن، والمنصفِ للتاريخ يتحدثُ اليوم عنْ (خمس وأربعينَ) جامعةً حكومية وأهلية وعشرات الكليات المتخصصة في المملكة تضم مختلف التخصصات، وتمنح كافة الدرجات العلمية، وآلاف المدارس في التعليم العام في كافة مراحلها التعليمية للبنين والبنات، وكانت تلك المرحلة منعطفًا هامًا في بناء الدولة والذي بدأ في استقطاب عدد من الأسماء البارزة من الرجال الثقات، من ذوي التأهيل والفكر والخبرة، من أجل النهوض بالدولة السعودية الناشئة بعد أن أستتب الأمن والاستقرار في جميع أرجائها، فأراد من خلال هذه «النخب» و»العقول» إن تبدأ بالإشراف المباشر على مرحلة البناء، والتطوير، والتحديث، وخاصة في مجال «التعليم»، إذ لا بناء ولا حضارة ولا تطور إلا على أساس متين من بناء التعليم وتجويد مخرجاته، وما البرقية التي بعثها إلى الشيخ عبدالله السليمان - رحمه الله - في عهده ذات الرقم (6086) وتاريخ 29 جمادى الآخرة من عام 1357هـ إلا دلالة واضحة على مدى اهتمام وعناية الملك عبدالعزيز - طيَّب الله ثراه - بالتعليم والاستثمار بأبناء شعبه الكريم، حيث أشارت إلى أن هناك شابين من أهل نجد الأول اسمه مهنا العبيد كان يدرس في البعثة الأولى في مصر، وبقي له سنة ليأخذ الشهادة الثانوية وديه معرفة باللغة الإنجليزية، ولديه استعداد للتعلم ومن رأينا (والحديث للملك عبدالعزيز): «أن يرسل للشركة في الظهران للتمرن على الأعمال الفنية، وبعد ذلك يرسل إلى أمريكا للتخصص في فن (الزيوت)، ويوجد شخص آخر اسمه: عبدالله الطريقي من أهل الزلفي يتعلم الآن في مصر مع البعثة وأثنوا على اجتهاده وهو يصلح أيضاً لهذه المسألة، ونظراً لأن الحكومة محتاجة لناس من رعاياها يكونون مثقفين لهذه المهمة؛ فقد تم إبلاغ مدير شركة (كاليفورنيا) في هذا الأمر وأفيدونا بالنتيجة التوقيع (عبدالعزيز).
ومن خلال هذه البرقية نستنتج المضامين الآتية:
أولاً: الملك عبدالعزيز - رحمه الله - استشرف في وقت مبكر بناء دولته على أسس وقواعد متينة، واعتمد في فكرة النهوض بمملكته الناشئة على التعليم والنهوض به ودعمه.
ثانياً: اعتماده - طيَّب الله ثراه- على منهجية مباشرة في استقطاب الكفاءات العلمية والإدارية، وذوي الخبرة من الرجال الأمناء، إذ أحسن انتقائهم بفطنة الخبير، والملك عبدالعزيز لديه فراسة في معرفة الرجال الذين اختارهم من مختلف البلاد العربية.
ثالثاً: عمل على الاستثمار الأمثل بأبنائه من شباب المملكة العربية السعودية وخاصة المبرزين علمياً، ولم يكن هذا ممكناً لولا العلاقات القائمة بينه وبين العديد من النخب الثقافية، وسؤاله وتفقده الدائم عن أبنائه الطلبة الذين يدرسون في الخارج.
رابعاً: كان لدى الملك عبدالعزيز حس واع، ومتفتح على العصر في صناعة القرار ضمن أولويات أساسية للبناء الإداري والحضاري للدولة الناشئة والحديثة، وضمن رؤية متكاملة.
خامساً: من اهتمامه بالتعليم قام بإنشاء مديرية المعارف في غرة رمضان من عام 1344هـ والتي ظلت محل اهتمام خاص من الملك عبدالعزيز، ولم يمض عامان إلا وصدر قرار بتشكيل أول مجلس للمعارف في عام 1346هـ، ثم إنشاء مدرسة (تحضير البعثات) في عام 1355هـ، وتعتبر أول مدرسة ثانوية تؤهل خريجها للدراسة بالخارج، ومن ثم توالى افتتاح المدارس النظامية في كافة أرجاء المملكة.
سادساً: مواكبته -رحمه الله- لأبنائه الطلبة في الإسراع في الدراسات الفنية مع بداية التنقيب الأول للبترول والمعادن للحاجة الماسة للكوادر الوطنية في هذا الجانب كما هو ظاهر في البرقية المرسلة لوزير المالية، وأن يكون الاعتماد على السواعد السعودية وفي ذلك رؤية واثقة وبُعد نظر، من قبله -طيَّب الله ثراه-.
سابعاً: كان الملك عبدالعزيز رائد التعليم الأول في المملكة العربية السعودية، والكثير من الوثائق التاريخية في عهده تؤكد أنه يؤمن بأن لا نهوض ولا بناء للدولة إلا بالتعليم «أولاً»، لذا كان تركيزه الأساس على «التعليم» فوضع البذرة الأولى للتعليم النظامي في المملكة العربية السعودية.
ثامناً: النظرة الثاقبة للملك عبدالعزيز وفراسته بالرجال من خلال اهتمامه بأبنائه الطلبة «مهنا العبيد»، و»عبدالله الطريقي»، وكانت فراسة ونظرة الملك عبدالعزيز قد أهلت الأول ليكون من كبار المهندسين بالبترول، وجعلت الثاني يكون أول وزير للبترول والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية.