د.عبدالله بن موسى الطاير
يخيل لبعض العرب أنهم بمعزل أو أن لهم حصانة مما حصل للمدنيين العزل في غزة من قتل وتهجير وتدمير، ولذلك يتابعون المشاهد الفاجعة وكأنها في كوكب آخر، ويتقيأون في شبكات التواصل الاجتماعي مفردات وتعبيرات لا تشبه ذوي الضمائر الحية.
بطش الإسرائيليين بالمدنيين والشعب الأعزل في غزة وعموم فلسطين بلغ شأوا لم يبلغه عدوان همجي من قبل، وصمت العالم الذي بيده إيقاف هذه المهزلة يؤكد أن أيا من العرب مسلحا كان أم أعزل ليس في مأمن بعد اليوم في ظل وجود دولة مارقة على جميع القوانين الدولية، ولها حصانة من المساءلة، ومسلحة بأسلحة نووية، ومحكومة بأحزاب دينية متطرفة تعد العرب حيوانات متوحشة، وتحثهم معتقداتهم على التخلص من أي جنس بشري ينافسهم في المكان، لأن الآخر وببساطة لا يرقى إلى مستوى الشعب المختار الذي خلق كل شيء لخدمته، وسخرت موارد الكون لرفاهيته.
الأمر لا يتعلق بغزة وحدها، ولا بفلسطين كلها، الأمر أكثر تعقيدا وله مساس بمصير الترتيبات التي أسسها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية ثم اختلفت توجهاتهم ومصالحهم وتفرقت سبلهم بعد ذلك. تحولت تلك الترتيبات والنظام العالمي برمته إلى عقبة في وجه السلم والأمن الدوليين عندما تكون إسرائيل طرفا في المعادلة، بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك وهو توجيه إمكانات النظام الدولي لخدمة دولة استعمارية هي الوحيدة في القرن الواحد والعشرين. في عرف إسرائيل، لا فارق بين شعب أعزل وشعب مسلح، في نهاية المطاف فإن التخاذل الدولي كفيل بالحاق الضرر بأي دولة تتعارض مصالحها مع مصالح الكيان الصهيوني.
منظمات دولية تُعطّل، ومسؤولون غربيون يفصلون من وظائفهم لأنهم اقترحوا هدنة لإيقاف إطلاق النار، ومنع التظاهر في عواصم عرفت بأنها تقدس حرية التعبير والتظاهر، وهيئات قامت لحماية حقوق الإنسان عموما وحقوق الصحافيين خصوصا تصاب بالصمم والعمى وتخرس وتجمد صلاحياتها لأن الضحايا من ذوي السحنات الداكنة وليسوا من شقر العيون الذين تتدفق في بشرتهم البيضاء دماء زرقاء، ثم يأتي عربي يخيل له أن الأمر يتعلق بشعب غزة الأعزل. المتهورون الذين قدحوا شرارة المأساة في غزة موجودون، أو يمكن إيجادهم في كل بلد عربي لتوفير الذريعة والمبرر.
ومع ذلك، فإن الخسارة الفلسطينية المأساوية في أرواح أهل غزة، رافقها سقوط مدو للمنظومة الأخلاقية والقيمية الغربية. لقد خذلوا أجيالهم الشابة قبل خذلان أطفال غزة، وأبانوا عن عنصرية مقيتة، وبرهنوا على أن حرية التظاهر إنما هي لمساندة مصالح الغرب، وأن حرية التعبير هي لمواطني الغرب إذا كانوا سيدعمون سياسات دولهم ومصالحها، وأن حرية التعبير قاصرة على ما يحقق مصالح الغرب وإسرائيل في قلبها.
لقد أحسنت إسرائيل من حيث أساءت في موضعين، أولهما؛ كشف الغرب وتعرية مزاعمه في مجال حقوق الإنسان والحريات، وفضحه أمام مواطنيه، وخلعت رداء الستر عن النخب السياسية والإعلامية والفكرية، الذين ساندوا الظلم والعدوان وتنكروا لكل القيم الإنسانية، بل وجرموها لأنها لا تخدم مصالحهم ومواطنيهم، وثانيهما؛ أنها أعادت القضية حية في نفوس أجيال من العرب والمسلمين كادوا أن ينسوها تحت وطأت محتوى التسامح والتعايش والأحلام والأمنيات.
الإسرائيليون المشاركون في السلطة وحدهم الصادقون مع نفوسهم ومعتقداتهم ومشروعهم. لم يغرهم التطبيع، ولا خطابات السلام ودعوات التعايش، ولا جزرات الرخاء الاقتصادي، كانوا متأكدين أن لهم عدوا، وأن عليهم أن يتمسكوا بروايتهم في مناجزة هذا العدو، فيما الطرف المقابل غارق في متخيل أوهم نفسه به، وتم تمريره على مدى عقود طويلة إلى عقول ووجدان العرب إلا من رحم ربي.
حرب غزة والعدوان غير المسبوق على الإنسانية والنظام العالمي والأخلاق والقيم سيعيد إسرائيل إلى الماضي عقودا من الزمن في وجدان وعقول الأجيال المسلمة، وسوف يوقظ الضمائر العالمية حتى وإن كانت تلك الضمائر لا تملك حولا ولا قوة. الوحيدون الذين أشك في أنها قادرة على إيقاظهم هم بعض العرب الذي تصهينوا منذ زمن، ونشطوا مؤخرا في صهينة غيرهم.