د. عيد بن مسعود الجهني
ما يحدث على أرض غزة المنكوبة يفوق القدرة على الوصف، يفوق القدرة على الكتابة، كما أنه يفوق القدرة على التحَمُّل، لقد اجتاحت نفوسنا جزاء هذا العمل الدنيء مشاعر قاسية مريرة كئيبة، مشاعر هي خليط من الغيظ والحزن والأسى.
كان منظراً قاسياً علينا ونحن نرى صراخ الأسر من أطفال ونساء وكبار السن أشلاءهم مقطعة مبعثرة، ونرى دماءهم تسيل أنهاراً في الطرقات.
كان منظراً مؤلماً منظر القتلى من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
ومنظر الجرحى وهم يئنون ولا يجدون من يسعفهم.
لقد امتلأت النفوس من تلك المشاهد خليطًا من المشاعر القاسية الحارقة، امتلأت بالحزن والأسى والغيظ.
إن ما فعلته وتفعله إسرائيل بشعب غزة الأعزل كان محرقة كبرى، بل كان إبادة جماعية بكل المقاييس، ورغم ما فعلته وتفعله إسرائيل وما ارتكبته من مجازر في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وجنين وقانا والقدس وغيرها.
إلا أن ما فعلته في غزة كان الأبشع والأكثر دموية.
آلاف القتلى سالت دماؤهم في الشوارع وتناثرت جثثهم على الأرض.
آلاف من الجرحى والمعاقين ضاقت بهم الشوارع بعد أن دمرت الآلة العسكرية الإسرائيلية المساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات والمنازل على رؤوس الناس فأصبحت أثراً بعد عين!!
محرقة غزة، إنها مجزرة كبرى خُطط لها بحقد دفين ووحشية بدهاء يهودي-أمريكي ليس جديداً علينا بل عرفناه منذ وعد بلفور اللعين 1917م، وما تبعه من تقسيم عام 1947 وإقامة الدولة العبرية عام 1948 خرج من رحمه قتل وتشريد للشعب الفلسطيني!!
السيد بايدن أخذ على نفسه أن لا يغادر بيته البيضاوي متجهًا إلى تل أبيب إلا على دماء أهل غزة الطاهرة، وهذه هديته للشعب الفلسطيني، أما الدولة الفلسطينية التي وعد بها مراراً وتكراراً فهي ليست أكثر من ذر للرماد في العيون وإن كان البعض قد علق على ذلك الحلم آمالاً عراضاً فقد ذهبت تلك الأحلام أدراج الرياح!!
والمجرم الجزار نتنياهو كان يعلن كذباً أنه سيكون رجل السلام الذي سيدشنه، فقد أبى إلا أن يشن حربه السوداء على بحر من دماء الفلسطينيين.
وإذا كان مجرمو إسرائيل قد ارتكبوا جرائمهم غير المسبوقة في التاريخ بأسلحة أمريكية بعضها محرم ومنها (الفوسفورية) التي تحدث حروقًا وعاهات تستمر لفترة طويلة وتحرق البشر والشجر والحجر، فإن لهذه الجرائم عقوبات محددة يجب أن توقع على مرتكبيها، بعد أن خرقت إسرائيل كل قواعد القانون الدولي الذي تنظم قواعده العلاقات بين الدول التي تدعي لنفسها السيادة وميثاق الأمم المتحدة التي قامت على أنقاض عصبة الأمم بعد الحرب الكونية الثانية لتحقيق السلام والعدل الدوليين ودعم كفاح الشعوب من أجل الاستقلال وإن كان كفاحًا مسلحًا، ناهيك عن اتفاقيات جنيف لحماية المدنيين في وقت الحرب لعام 1949 واتفاقيات جنيف لحماية حقوق الإنسان وغيرها.
ولأن إسرائيل متأكدة من أنها استخدمت الأسلحة المحرمة دوليًا وارتكبت جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال وغيرهم الذين قتلتهم بدم أبرد من الثلج، ترفض أن تقوم أي منظمة دولية باستقصاء الحقائق!!
كل هذه الجرائم ضد الإنسانية ضد غزة وأهلها والتي لا تقل بشاعة عن كل من هيروشيما وناغازاكي تحدث في هذا العالم الظالم المشحون بأحداث وكوارث جسام. مما يؤكد وفاة النظام الدولي دون أن نسمع كلمة عدل واحدة لرفع الظلم عن المظلومين والمقهورين والمضطهدين، أهل غزة يُقتلون ويُحرق أطفالهم وتهد بيوتهم على رؤوسهم، وتستعمل ضدهم أعتى الأسلحة وأعنفها وأشدها ضرراً وإيلاماً.
ولكن العالم الظالم يسكت سكوتاً مريباً، بل إن بعض دوله تؤيد تلك الجريمة النكراء، ومع هذا نقرأ في ديباجة نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي سرى مفعولة في أول يونيو 2001 (هذه الجرائم الخطيرة تهدد السلم والأمن والرفاه في العالم، وتثير حنق المجتمع الدولي بأسره، فيجب أن لا تمر دون عقاب).
ورغم ظلامية تلك الحرب وجرائمها غير المسبوقة في التاريخ الحديث تسابق رؤساء الدول العظمى لدعم إسرائيل في باطلها ضد الحق وعلى رأسهم بايدن ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك ورئيس فرنسا ماكرون والمستشار الألماني شولتس وغيرهم، وكل ذلك لنصرة إسرائيل بجرائمها.
والسؤال المطروح: هل هناك أفظع من تلك الجرائم التي ارتكبها مجرمو الدولة العبرية، جرائم إبادة، جرائم حرب، جرائم ضد الإنسانية، جرائم عدوان واحتلال، جرائم قتل وإبعاد للسكان الأصليين بل ونقلهم قسرًا وإحلال يهود محلهم، كبت الحريات، جرائم فرض الحصار والتجويع بالحرمان من الحصول على الطعام والدواء والماء والغذاء بقصد وسبق إصرار لإهلاك السكان، جرائم التمييز العنصري، جرائم مهاجمة المدنيين عمداً، جرائم تطبيق الجيش الإسرائيلي سياسة الأرض المحروقة وهي عقيدة هذا الجيش النازي، جرائم مهاجمة المساجد والمدارس والجامعات والمستشفيات ومقرات الأمم المتحدة، والمؤسسات الخيرية وفي مدينة هي الأكثر كثافة سكانية في العالم تحتضن أكثر من 2.250 مليون إنسان.
هذا خرق صارخ للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر الأساس للقانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي دخل حيز التنفيذ عام 1976 العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. الخ.
كل هذه الجرائم وأبشع منها ارتكبها مجرمو إسرائيل بالتواطؤ مع الإدارة الأمريكية التي له سجلها في ارتكاب جرائم كبرى في أفغانستان والعراق.
وإذا كانت هذه بعض الجرائم التي ارتكبها قادة إسرائيل ومنهم أولمرت وشارون وبيريز وليفني وباراك ونتنياهو وغيرهم كثر.
وإذا تأملنا بعض نصوص مواد قانون المحكمة الجنائية الدولية ومنها المادة الخامسة التي حددت الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وكذلك المادة السادسة، السابعة، والثامنة التي شرحت تفصيلاً المفهوم القانوني لجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وكذلك جرائم الحرب وغيرها من الجرائم.
وإذا استعرضنا تلك المواد التي حددت الجرائم المعاقب عليها نجد أن جميع الجرائم التي ورد النص عليها، بل أكثر منها قد ارتكبها قادة اليهود وجنودهم ضد الفلسطينيين العزل بلا وازع من خلق ولا رادع من ضمير!!
والمادة 58 من قانون المحكمة تمنح الدائرة التمهيدية بناء على طلب المدعي العام إصدار أمر بالقبض على الشخص إذا وُجدت أسباب معقولة للاعتقاد بأنه قد ارتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، وأن القبض عليه ضروري لضمان حضوره أمام المحكمة.
والسؤال المطروح مرة أخرى: هل هناك أكبر من الجرائم التي ارتكبها قادة الدولة الصهيونية وجنودها ضد الفلسطينيين الأبرياء من قتل وإبادة حتى أن الجيش الإسرائيلي قام في حالات مخزية تقشعر لها الأبدان بإجبار المدنيين على مغادرة منازلهم وتجميعهم في مبنى واحد في المدارس والجامعات والمستشفيات ودور العبادة ثم هدم المباني على من فيها، ناهيك عن التهجير والحرمان من الطعام والدواء والماء والغذاء، وتعمد ضرب المدنيين بالقنابل والصواريخ من الجو والبر والبحر، وكل تلك القنابل والصواريخ شديدة الفتك، بل إنهم استخدموا أسلحة محرمة مثل القنابل الفسفورية والقنابل الانشطارية.
بل أكثر من ذلك جرب الإسرائيليون ضد الفلسطينيين أسلحة أمريكية تستخدم لأول مرة، منها ما يحرق اللحم ويصل حتى العظم ومنها ما يجعل كل وريد وشريان في داخل الجسم ينزف دون أن يستطيع أي طبيب إنقاذ ذلك المصاب، بل تأكد أن إسرائيل استخدمت قنابل ذكية متطورة جداً في ضرب الفلسطينيين، والجيش الإسرائيلي في قصفه المجنون ذلك لم يستثنِ مكاناً، فدكت المستشفيات وضربت قوافل غوث وتشغيل اللاجئين وقتلت اللاجئين في المدارس والمخيمات التابعة لها ودمرت سيارات الإسعاف بل طال القصف النازي دور العبادة، هذا غير حصار الناس وتجويعهم وحرمانهم من المواد الأساسية حتى الماء والدواء والغذاء.
ثم هل هناك معلومات أو وثائق أو مستندات أكثر وأهم من هذه التي تؤكد الإدانة القطعية لهؤلاء المجرمين الذين داسوا بالحذاء القديم على القانون الدولي والقانون الإنساني وحقوق الإنسان وميثاق المنظمة التي قبلتهم عضوًا فيها وهم أول من خرق نظامها؟
وهم الذين رموا كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها وهي أكثر من 1000 قرار تدينهم في (المزبلة)، وهم الذين ينكرون وجود اتفاقيات اسمها اتفاقيات جنيف الأربعة ومنها اتفاقية جنيف السابق ذكرها خصوصاً المادة (3) المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربعة المؤرخة في الثاني عشر من آب أغسطس 1949م وهي التي تحمي ليس المدنيين فقط بل أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا سلاحهم والذين أصبحوا عاجزين عن القتال بسبب المرض أو الإصابة لأن من أمن العقاب أساء الأدب، ومعروف ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في حرب 1967م وما قبلها وما بعدها وستستمر!!
إن على العرب ومنظماتهم المدنية وغير المدينة أن يهبوا هبة رجل واحد وهم يملكون بين أيديهم وثائق ومستندات قانونية دامغة في إثبات الجرائم السابقة والتي لا تسقط بالتقادم ضد هؤلاء المجرمين المحترفين، وطَرق كل الأبواب ومنها المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك هيئات حقوق الإنسان في العالم والتي من بينها مجلس حقوق الإنسان في جنيف الذي أدان بشدة إسرائيل لانتهاكها لحقوق الإنسان وكوَّن لجنة لتقصي جرائم الحرب الإسرائيلية التي ارتُكبت في غزة.
لا شك أن استخدام نصوص القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وتسخير ما تحت أيدي العرب من وثائق ومستندات ووقائع يستطيعون رفع قضايا مباشرة إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن اتهام قادة الدولة العبرية وجنودها المجرمين ويطلبون محاكمتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة ضد الفلسطينيين، فإن كنا قد عجزنا أو تقاعسنا عن نصرة إخواننا في ساحات الوغى فلا أقل أن ننصرهم في ساحات القضاء الدولي لعل ذلك يشفي شيئاً من غليل قلوبهم التي ملأها غيظًا وحزنًا ظلم هذا العالم البغيض!!
وإذا كان الرئيس بايدن كرر الحديث عن قيام الدولتين فلسطينية وعبرية فإن عليه وممن هرعوا لنصرة إسرائيل ودعم ظلمها وعدوانها، عليهم الاعتراف بالمبادرة العربية للسلام التي أصلها سعودي وأجمع عليها العرب لأول مرة في تاريخهم في مؤتمر بيروت 2002. أنها المفتاح الحقيقي للسلام بحدود الفلسطينيين عام 1967 لدولتهم وعاصمتها القدس الشريف، وإلا فسوف تبقى إسرائيل وفلسطين في حالة حرب دائمة.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة