د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هناك أسطورة قديمة شاعت لدى اليونانيين، ووصلت إلينا، فبعد بداية اضمحلال عهد الحيثيين عام ألف ومائتين قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف ومائتي سنة من الآن والذين عاشوا في الأناضول، وكانوا ذوي أصول أثراكية، حل محلهم الفريجيون، وهم من أصل هندو آيري، ويقال إنهم قدموا من أوروبا الشرقية وجعلوا عاصمتهم مدينة غورديون، وقد كان لهم تداخلات إيجابية وسلبية مع حضارة ما بين النهرين وكنعان ومصر، تلك الحضارات العريقة جداً، لاسيما ذلك التداخل مع الآشوريين في العراق، وكان الآشوريون يسمونهم موشكي، وكان لهم أيضاً تداخلٌ مع اليونانيين، وأثروا تأثيراً كبيراً في الحضارة اليونانية، ويعتقد البعض أن أصل لغتهم هندو أوروبية، وقد استخدمها اليونانيون القدماء مدة طويلة، وكانت الأحرف اليونانية هي التي تستخدم في الكتابة.
كانوا مقبلين على عبادة الآلهه، فجعلوا لهم إلهة اسمها ما، ثم تغيرت الحال فاصبح اسمها سيبيلا، وكانوا يرونها روح الأرض والمتحكمة في الطبيعة، وقد اشتقوا اسمها من جبل لديهم، كما تأثروا ببعض العبادات المحلية، وكانت لهم طقوس ومزارات دينية كثيرة، يحرصون عليها، ومن طقوسهم الدعارة المقدسة التي يمارسونها تقرباً لآلهتهم سيبيلا، وقد انتقلت هذه الطقوس إلى اليونان، ومنها إلى روما، والتي فيما يبدو توسعت ممارستها، حيث كانت تقام الحفلات الدينية الخليعة بشكل ظاهر، وأساس هذه الخرافة اعتقادهم أن الآلهة سيبيلا أحبت أوريس حباً مفرطاً وطلبت منه أن يخصي نفسه تقرباً لها، ربما حتى لا يمارس الجنس مع الأخريات غيرها، ولكونها إلهة فلا يمكنها أن تمارس الجنس، واتباعاً لذلك فقد كان أبناء الطبقة الراقية الذين ينذرون أبناءهم للكهانة وعبادة سيبيلا، يضحون برجولة أبنائهم ويخصونهم تقرباً ومماثلة لما فعل أوريس، وربما أن هذا ما يفسر انصراف الكهنة في الكنيسة الرومانية عن ممارسة الجنس، والتفرغ للعبادة والتبتل، والحقيقة أن بعضاً من البدع الدينية ربما يكون مصدرها موروثات أسطورية قديمة بقيت محفوظة في ذاكرة المجتمع، ومع مرور الوقت تبرز ليتم إدخالها شيئاً فشيئاً إلى الدين أو المعتقد، بقصد أو غير قصد لتصبح مع مرور الزمن، وكأنها جزء منه، وقد تكون مصدر تنافر وتنازع بين الأتباع.
وأسطورة ميراس مع الذهب أسطورة قديمة جداً ترجع إلى أكثر من ألفين وسبعمائة عام، ومشهورة في الأساطير اليونانية، والتي أصبحت فيما بعد جزءاً من الأدب اليوناني القديم والروماني، وهي تتعلق بأحد ملوك الفريجيين الذين تم الحديث عنهم أعلاه، واسمه ميراس بن كورديوس، وقبل إيراد اسطورة ميراس يستحسن إيراد أسطورة أبيه كورديوس، وتقول الأسطورة أن الفريجيين في فترة قصيرة بقوا دون ملك، فذهب الناس إلى الكهنة يسألونهم الحل، وهم بدورهم نقلوا الموضوع إلى العرافة، التي أفتت بأن أول رجل يقدم إلى المعبد وهو على عربة يجرها ثور يكون ملكاً، وبعد برهة من الزمن قدم ذلك القروي البائس الذي لا يملك سوى ثورين أحدهما هو الثور الذي يجر العربة، فأخبروه الخبر، ونال ملكاً ساقه الله إليه، فقرر أن يهدي العربة للمعبد، وربطها ربطاً محكماً في عمودين من أعمدته، وشدها بحبل، وعقده عقدة يصعب فكها، وأصبح ملكاً، وبنى حول المعبد مدينة غورديون، وبقيت تلك العقدة عصية على من حاول حلها، إلى أن قدم الاسكندر المقدوني إلى المدينة للنزهة، وذلك بعد أربعمائة سنة، وهو في بداية أمره، وكانت تحت حكم الفرس، فقرر أن يفك العقدة ففشل، وكانت عرافة زمانه قد أفتت بأن من يفك العقدة يكون له ملك آسيا، فقرر أن يضربها بسيفه ففعل فظهرك أطراف الحبل وحل العقدة، وملك آسيا، وأصبحت عقدة غورديون، أوغورديوم يضرب بها المثل في أن الحسم هو الذي يحقق النجاح. وربما أن ذلك قد يكون صحيحاً، لكن ليس في كل الحالات.
أما ابنه ميراس فله أسطورة أخرى، فقد كان شغوفاً بالمال يحب جمع الذهب، وكان قد جمع مالاً كثيراً، وكلما ضاق صدره دخل إلى غرفة الذهب، وأخذ ينظر إليه ويلمسه، فتدخل السعادة إلى قلبه، وذات يوم وبحبه للذهب طلب من الآلهة أن يتحول كل شيء يلمسه إلى ذهب، فمنحته الآلهة ما أراد، فعندما لمس الطعام ليأكل تحول إلى ذهب، وأراد أن يشرب فتحول الماء إلى ذهب، وذهب إلى بنته فلمسها فتحولت إلى ذهب، وأخذ يبكي ويرجو الآلهة أن يرفعوا عنه ما حدث، وأن يعود كما كان، فأمروه أن يذهب إلى نهر عينوه، ويغتسل هناك ففعل، فعاد كل شيء كما كان، كما عادت ابنته إلى حالتها الطبيعية، وتبرز الحكمة هنا بأن الطمع في جمع المال قد يكون سبباً في الجوع للانشغال به، كما أن الأمنيات أو الدعوات من الأفضل أن تكون على قدر الحاجات، وأن راحة البال مع الصحة، خير مع كثرة المال مع العجز عن الطعام والشراب، فالسعادة ليست في المال وإنما في الرضا والشكر والثناء لله خالق هذا الكون، والمعطي والمانع، وموزع الأرزاق ومسبب الأسباب، سبحانه وتعالى، فالمال وحده لا يجلب راحة البال، حتى وإن حزت ما حزت، ونلت ما نلت، ولهذا فإن من أجمل الدعاء {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}.
يبدو أن الفريجيين واهتمامهم بالعبادة، وانتقال كثير من عبادتهم إلى اليونان، جعلت اليونانيين ينسجون حولهم الأساطير، ولابد أن الكثير من اليونانيين يؤمنون بتلك الأساطير، ويرونها حقيقة، ولهذا فقد سجلها أدباؤهم في كتبهم.