د. محمد بن أحمد غروي
كتب سلاطين الملايو لغتهم بالخط الجاوي ذي الأحرف العربية، والذي استخدم منذ العصور الوسطى، وتم اقتباسها من الأبجدية العربية بالتزامن مع بداية رحلات التجار المسلمين إليها، وكُييف لاحقًا مع علم الأصوات الملاوي.
وللتوضيح فإن كلمة «جاوي» مشتقة من الكلمة العربية «جاوة»، وهي ترتبط أيضًا بالأعراق في جنوب شرق آسيا، ومتجذرة الأصول في الأرخبيل وممتدة في معظم دول «الآسيان»، لتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك العلاقة اللغوية الوثيقة بين اللغة العربية الخالدة ولغات الملايو.
ولمن لا يعلم البُعد التاريخي، فإن الخط الجاوي استخدم لقرون حتى تحول إلى الأحرف الرومانية بفعل المستعمر الأوروبي في اللغة الماليزية والإندونيسية (Bahasa Melayu - Bahasa Indonesia).
ورغم شح الكتابة بالخط الجاوي في المرحلة المعاصرة، إلا أن هناك دوائر حكومية ماليزية لا زالت تستخدمه، ففي العام 2019 أعلنت الإدارة الدينية الإسلامية في ولاية جوهور والمجلس الديني الإسلامي عن استخدامهما للخط الجاوي في جميع مراسلاتهما، بدءًا من عام 2020، فيما لا تزال بعض الصحف الدورية تطبع بلغة البهاسا ملايو بالخط الجاوي.
شجًّع بعض الساسة على العودة لتعلّم وممارسة الخط الجاوي، خاصة في ماليزيا، داعين إلى دعمه لارتباطه بقوة الاستقلال الثقافي وتاريخ البلاد، كما نادى بعض المهتمين باستخدامه في المدارس الصينية والهندية الماليزية لتكون ضمن خطط الدولة الإستراتيجية للحفاظ على هويته اللغوية بصفته تراثًا وطنيًا.
ما يُعطي الأمل أن روحانية الخط العربي في الشرق الآسيوي لا يزال يعم الأرجاء، ويمكنني القول، إن وزارة الثقافة السعودية تقوم بدور محوري لدعم الخط العربي على المستوى العالمي من خلال إقامة الفعاليات والندوات، وأشير هنا إلى «معرض رحلة الخط والكتابة» الذي نظمته في مركز المدينة للفنون بالمدينة المنورّة مؤخراً، تحت شعار «دروب الروح»، الذي حوى ما ارتبط بالخط العربي والممارسات الفنية، وأتاح الفرصة لزواره للانطلاق في رحلة وجدانية غامرة من الاكتشاف، والتأمُّل في جمالياته، فهو كنز وتظاهرة ثقافية وإرث سعودي متأصل يتوارثه الأجيال.
وإقامة المعرض في المدينة المنورة امتزج طابع فريد، فهي مهد العلم واللغة والأدب والارتباط الروحي لطيبة الطيبة في الحضارة والتاريخ الإسلامي، وفي رأي - بعد زياتي- أنه تجاوز عرض اللوحات فنية، إلى تمكين الفنانين الناشئين ودعم المواهب الصاعدة لتقديم أعمالهم والترويج لمواهبهم.
اتفق مع ما نادى به الخطاطون والفنانون التشكيليون والمصممون المعاصرون، من أن الخط العربي هو فنّ يمتد عبر قرون من التاريخ وأصبح جزءاً أساسياً من قطع فنية تحمل بصمته وتعبيره، مؤكدين أن المشاركة في المعرض تُعدّ فرصة لتعزيز اللغة العربية، وهو استشراف لجزءٍ هام من تاريخه الثقافي والفني.
من خلال احتكاكي المباشر بمثقفي الأرخبيل وشبابه أجد حرصًا حقيقياً على تعلّم اللغة العربية واستذكار تاريخ خطهم الجاوي المرتبط كلياً بالخط العربي، وقد آن الأوان في رأيي أن تُقام النسخ المقبلة لـ»معرض الخط العربي» في رحلة مستمرة تجوب الشرق الآسيوي؛ بهدف دعم الثقافة السعودية عالميًا وتأصيل مهد الخط العربي من الجزيرة العربية وربط الحضارات بعضها ببعض وهو ما يتناغم كلياً مع الإستراتيجية الوطنية الثقافية المنبثقة من رؤية السعودية 2030، إضافة إلى تناغم ذلك مع بيان قمة الرياض لدول مجلس التعاون الخليجي ورابطة آسيان المنعقد الشهر الماضي والذي نص على تعزيز الوعي بالتقاليد والفنون والتراث والثقافات في دول المنطقتين، من خلال إقامة المهرجانات والمعارض الفنية والفعاليات والأنشطة الثقافية، وتبادل أفضل الممارسات وبناء القدرات وتعزيز الصناعات الإبداعية الثقافية.