د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لقد حاول الإنسان عبر مسيرته الحياتية الطويلة أن يضع من القوانين ما يكفل الحفاظ على حقوق الدول، منطلقاً من الأعراف والمنطق أو ما هو أسمى وهو الدين، وقد وضع حمورابي قوانين دولته البابلية، ومن المفترض أنه سوف يطبق ذلك على جيرانه من الدول، لكنه لم يفعل، فقد حارب وأثخن في القتل، وكان من سبقه قد وضع قوانين سواء في حضارات كبيرة مثل الحضارة السومرية أو الحضارة الفرعونية، أو دويلات المدن، لكنها لم تمنع الدول أو الدويلات من التناحر، انطلق من طمع القوي في الضعيف، أو إضعافه وجعله تابعاً له يأتمر بإمرته.
التقدم الحضاري الذي شهده الإنسان في فترات من حياته كان منصباً على التقدم المعرفي دون تطور كبير في التطور الأخلاقي الكبير، ويمكن القول إن ما جاء به عيسى عليه السلام منطلقات رائعة لوضع لبنة من لبنات الأخلاق والقيم الإنسانية، فهو القائل عليه السلام كما ورد في إنجيل لوقا : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الآخر، ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك، وهذا نصح وتوجيه بأن يسود التسامح والعفو بين الناس، وتجاوز الخطايا حتى لو ارتكبت من الأعداء، كما أن الأناجيل الأربعة مليئة بالحث على المحبة والتسامح، وفعل الخير، ونشر السلام بين الدول والأفراد، وجاء رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، برسالة عظيمة وكتاب مبين، فيه ما يكفل حقوق الأفراد والمجتمعات والدول، فلم يفرق بين أبيض وأسود، وأمر بعدم قتل الأطفال والنساء وعدم قطع الأشجار، ومسالمة من سالم، وحفظ المواثيق وتطبيقها، وعدم التحايل عليها، حتى وإن كانت ليست في صالح المسلم.
في جميع الدول بلا استثناء كانت هناك أعراف سائدة بين المجتمعات أو القبائل، وقد مورست قبل مجيء الكتب السماوية، وبعدها، ومازالت تمارس حتى وقتنا الحاضر في بعض الدول، وربما أنه لم يحدث عليها تعديل يذكر إلا ما يخالف الكتب السماوية مخالفة ظاهرة، ولاشك أن بعض تلك الأعراف قد بني على أخلاق إنسانية تكاد تكون متماثلة في العالم لاسيما فيما يخص الحقوق، وكانت درعاً للحفاظ على النظام العام في حدوده الضيقة، والناس في ذلك الوقت تلجأ لتلك الأعراف لتتمكن من العيش في مجتمعات بعد أن كان إنسان الكهوف، أو إنسان الغابة يعيش مع أسرته منفردين لا يحتاجون إلى قوانين تنظم حقوق كل طرف لعدم وجود أطراف.
علمنا التاريخ وعلمتنا النقوش أن القوانين بين دولتين أو أكثر كان مدوناً وسائداً، إلى أن تتغير المعطيات، فكانت هناك معاهدة بين ولايتي كلش، ودولة ما بين النهرين، وولاية كلش تقع على الحدود التركية السورية الحالية، وكانت إحدى دويلات المدن المنتشرة في الشرق الأوسط لاسيما اليونان، وسوريا، وفلسطين، ولبنان، وغيرها، لكن دويلات المدن لا تجدها في مصر أو العراق، لأن الأرض منبسطة، ولهذا كانت هناك معاهدة بين دولة ما بين النهرين ودويلة على رأس جبل، حتى يعم السلام بينهما، ولن ننسى تلك المعاهدة المشهورة بين رمسيس الثاني المصري، والحيثيين الأناضوليين الذين احتلوا سوريا وغيرها، وكانت بينهما عدة معارك أشهرها معركة قادش التي خرج الطرفان منها بالتعادل إن صح التعبير، ووضعت المعاهدة، وتم تنفيذها لسنين عديدة، وقد تزوج رمسيس الثاني بإحدى بنات خاتوسيليس ملك الحوثيين، لكن الزوجة البائسة بقيت في قصر رمسيس فرعون مصر، ولم تر النور، وإن كانت تعيش عيشة القصور، ورمسيس رجل مزواج له عدة جوارٍ وخمسون ولداً وثمانٍ وأربعون ابنة، وعدد كثير من الزوجات.
لقد أخذنا التاريخ بعيداً، عن صلب الموضوع المتمثل في القانون الدولي والأخلاق، ويبدو أن القوانين الدولية، بما فيها القانون الإنساني المتفق عليه، وحفظ حقوق وحدود الدول، تخضع لنفوذ القوي، فأضحى القانون ستاراً من قماش يسهل إزالته أو تركه طبقاً لمصالح النافذين، ولاشيء غير ذلك، لأن الأخلاق الانسانية لم تتطور بتطور الثقافة المعرفية والتقنية فيزداد البون، ومعه يزيد الخطر، وتكثر المخاطر، وربما يؤدي ذلك التباعد بين الأخلاق الرادعة، والقوانين السائبة إلى كوارث قد تؤدي إلى فناء الجزء الأكبر من الأرض لا سمح الله، بمجرد خطأ في التعبير، أو التفكير، أو التسيير، ولا أظن لبيباً ينظر بمنظور بعيد يغفل عن أن هناك خطراً عالمياً قد يحدث في ظل الأزمات، وغياب العدالة العالمية، وتطبيق القرارات الدولية، وتوفر أسلحة الدمار الشامل، وغياب الأخلاق الإنسانية الرادعة عند البعض، وربما تظهر ظروف تؤجج الصراعات، وما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية، ليس ببعيد، وهما حربان لم يستخدم فيهما إلا سلاح نووي مرتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، والحرب على مشارف الانتهاء، فلو كان الطرفان يملكان نفس السلاح كما هو الحال الآن عند كثير من الدول، لكن العالم مختلفاً.
وأخيراً لابد لسيادة أخلاق إنسانية سامية، والانتقال من فكر المصالح، والميكافيلية، أو تلك المقولة المشهورة وذلك عند إرسال إحدى بعثات اكتشاف أمريكا حيث يقول: (عليكم أن تحضروا الذهب)، وحاولوا أن يكون ذلك بأقل الخسائر، لكن عليكم أن تحضروا الذهب، يعني الذهب أهم من الخسائر البشرية من كلا الطرفين، وهذا هو الجشع بعينه، والذي يقود إلى دمار العالم، فالكرة الأرضية لجميع البشرية وليس لدولة، أو مجموعة، أو فئة، ولن يتحقق ذلك إلا بالعدل الفعلي النابع من الالتزام الأخلاقي، وليس الهوى والمصالح.