محمد سليمان العنقري
انتقل العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود إلى نظام عالمي جديد ظهر على أنه أحادي القطب وكل مفاتيحه لدى أمريكا التي وجدت نفسها الدولة الأقوى في العالم دون منافس وزادت قناعتها أكثر بأنها تسير نحو أن تبقى المتفردة بقيادة النظام العالمي الجديد وتكييفه وفق مصالحها بشكل أساسي حتى دون اعتبار لمصالح أهم حلفائها التاريخيين في أوروبا فوصلت لمرحلة أنها تنافسهم على صفقات تم تعميدهم بها كالغواصات الفرنسية التي اتفقت أستراليا مع باريس لشرائها إلا أن أمريكا حولت الصفقة لها بنهاية المطاف وكذلك فعلت في ملفات سياسية عديدة كانت أوروبا تتخذ مواقفها اتجاهها بالتنسيق مع واشنطن لكن الأخيرة فاجأتهم بتغيير في موقفها حتى وصل الحال لأن يصرح قادة أوروبيون منهم رئيس فرنسا بأنه ليس بالضرورة أو لا يجب أن تكون مواقفهم من الصين مثل موقف أمريكا فمصالحهم مختلفة ولا يجب أن تكون مواقفهم من أي قضية مطابقة للرؤية الأمريكية.
لكن ما شهده العالم في السنوات القليلة الماضية من صدامات وصراعات سياسية واقتصادية وعسكرية كحال الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتغيرات السريعة التي تنفذها أمريكا بشكل أحادي مثل انسحابها من أفغانستان وما حصل فيه من غياب للتنسيق مع دول الناتو أهم شركائها في حروبها بمناطق عديدة يضع العالم أمام أسئلة حول تصرفات أمريكا هل تتخذ هذه القرارات لأنها الأقوى في العالم ولم يعد يعنيها أي شراكة أو حلف أم أنها تسابق الزمن لتنسف كل الاحتمالات بأن تفقد هذه المكانة الدولية التي تبعدها عن أقرب منافسيها بمراحل عديدة فأمريكا التي غادرت الشرق الأوسط بعد أن نشرت الفوضى فيه وتركت فراغاً كبيراً تنافست دول إقليمية لتعبئته مثل إيران وتركيا تفاجأت بأن الصين وروسيا، بل حتى أوروبا وجدت بذلك فرصة لأن تملأ هذا الفراغ وفق رؤية تختلف عن أمريكا فالصين تحديداً تريد الاستقرار بالمنطقة والعالم لكي تجني ثمار تقدمها الكبير في علاقاتها التجارية بعد اطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013 وهو ما مكنها لتكون الأكبر في التجارة العالمية بحجم يفوق 5 تريليونات دولار وبميزان تجاري يحقق لها فائضا سنويا لا يقل عن 600 مليار دولار سنوياً مع توجه لتحقيق الاستقلال التكنولوجي خلال عقد من تاريخنا الحالي ونمو سنوي هو الأعلى كنسبة مئوية في زيادة الإنفاق العسكري مع زيادة في مشاركاتها العسكرية خارجياً بهدف إنشاء المزيد من القواعد وتوسيع حجم إسطولها البحري ليصل لكل مكان لديها فيه مصالح كبيرة كما أن روسيا تبحث عن إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي وأيضا دول الاتحاد الأوروبي تريد الاستقلال بمصالحها عن مصالح أمريكا لكي تتمكن من إعادة الحيوية لاقتصاداتها ودورها الدولي سياسياً واقتصادياً وعسكريا.
أما أمريكا فهي ترى في بقاء العالم معتمدا على دولارها في التعاملات التجارية الدولية وأيضا كعملة احتياط إضافة لكونه أكثر عملة يتم الاقتراض على أساسها وتمثل 60 في المائة من تعاملات الاقتراض عالمياً مع تفوق تكنولوجي وعسكري واسع فلديها 600 قاعدة حول العالم وأساطيلها موجودة بكل البحار والمحيطات وتمتلك مفاتيح التأثير السياسي بأدوات عديدة فعندما تفرض عقوبات على أي دولة أو جهة فإن الأثر يظهر سريعاً وتلتزم الدول والشركات بتلك العقوبات لأنها تخشى أن تخسر السوق الأمريكي في حال لم تمتثل لقرار أمريكا فسوقها الأكبر بالعالم إضافة لعوامل قوة عديدة.
لكن واقع اليوم اختلف أيضاً فالصين ينمو الاعتماد عليها بشكل كثيف بالعالم وأغلب الدول بالاقتصادات النامية والناشئة أصبحت تعاملاتها مع الصين مرتفعة وهي الشريك التجاري الأول لأغلب دول العالم واليوان ارتفعت نسبته باحتياطيات الدول لأكثر من 3 في المائة حاليا علما بأنه كان حول 1 في المائة فبل ستة أعوام أي أن نمو الطلب عليه يتسارع، فرغم أن البعض يراها نسبة بسيطة قباساً بالدولار الذي يمثل 60 في المائة لكن نمو الطلب عليه كعملة احتياط في مدة قصيرة زاد بضعفين وأصبح اليوان إحدى العملات الرئيسة المعتمدة في سلة احتياطيات صندوق النقد الدولي كما أن حجم الطلب عليه بالتجارة العالمية كتعاملات قارب 5.6 في المائة وهي نسبة تمثل ضعف ما كانت عليه قبل فترة قصيرة قد لا تتعدى العامين وإذا استمر نمو الاعتماد على عملة الصين بنفس الوتيرة ففي بحر عقدين من الزمن قد تصبح هي عملة الاحتياط والتبادل التجاري والاقتراض الأولى بالعالم ولذلك إذا فقد الدولار مكانته فإن ضعفاً هائلاً سيصاب به اقتصاد أمريكا ولن تجد من يشتري سنداتها ولن يكون الدولار ذا أهمية أولى بالعالم مما يهدد بإفلاس أمريكي اي عدم القدرة على تسديد التزاماتها نظراً لتسارع نمو ديونها السيادية بنسب كبيرة جداً حتى تخطت 33 تريليون دولار بما يصل لأعلى من 120 في المائة من ناتجها الإجمالي عند قرابة 27 تريليون دولار كما أن الصين تستقل بصناعات تكنولوجية كالشرائح الإلكترونية وهو ما يمثل دعماً لأن تصبح مستقلة عن أمريكا بهذا المجال المهم جداً إضافة لإنشائها بنكاً يهدف لأن يكون منافساً لصندوق النقد الدولي مع تشكيل تكتلات اقتصادية مثل بريكس أما أمريكا فهي تأخرت في تعزيز شراكاتها الدولية مع مناطق مهمة مثل إفريقيا وانسحبت من الشرق الأوسط وهو ما سبب لها ضعفاً بمواجهة الصين التي أتت بتوجه إضافي حيث تلعب أدوارا سياسية مهمة كالمصالحة التي كانت وسيطاً فيها بين السعودية وإيران وإذا ما اتجهت جل الدول لأن تكون الصين وسيطاً في قضاياها أو داعماً فإن البساط سيسحب أيضا من تحت إقدام أمريكا مع أيضاً نفور من تدخلات أمريكا بشؤون الدول تتعلق بمبادئها وقيمها وهو عكس نهج الصين التي ترفض التدخل بمثل هذه القضايا مع أي دولة بالإضافة لازدواجية المعايير الأمريكية والغربية مع العديد من القضايا كدعمهم لإسرائيل الدولة الغاصبة والمحتلة للأراضي الفلسطينية والمحاصرة لشعب أعزل وتنفذ بحقهرائم تغطيها أمريكا سياسيا في مجلس الأمن باستخدام الفيتو ضد أي قرار يدين إسرائيل وتدعمها عسكرياً ومالياً.
أمريكا التي أعلن رئيسها بأنهم أخطأوا بالخروج من الشرق الأوسط وقال إنه سيعمل على إصلاح ذلك، تغير أسلوبها من نهج إدارة الصراعات إلى تثبيت الاستقرار بالمنطقة وهو ما يتضح من دورها بالحرب على غزة والمفاجأة برد الفعل والتحول لإنهاء حماس والذي سيعني وجود ممثل واحد للفلسطينيين مع ما هو متوقع بأن تستكمل بعدها قص كل الأذرع التي سببت الفوضى وكانت من أدواتها ولذلك ألجمت بتهديداتها بمنع التدخل في ملف حماس كل طرف متحالف ضمن محور واحد كحزب الله بلبنان وغيره وحتى إيران مهددة إذا تدخلت فهي تتجه لتقيم تحالف مع المنطقة كحال مشروع مارشال في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لتتمكن من إضعاف اختراق الصين وروسيا في الشرق الأوسط حتى تتمكن أيضا من تحجيمهم ليس فقط تجارياً عبر دعمها لكل تحالف تجاري منافس لمبادرات الصين بل منعها من التوغل دولياً عسكرياً وسياسياً فصراعها وتغيير بعض توجهاتها ما هو إلا ضمن صراعها الوجودي الذي تخشى أن تفقد معه اتحادها في حال انهيار دولارها بعد عقود قليلة وهو أكثر ما تحشاه من تمدد الصين وتقدم دورها العالمي إضافة للدور الأوروبي الذي بملك مقومات نجاح متعددة.