رقية سليمان الهويريني
يقول دوستويفسكي: أقسم لكم أيها السادة أن شدة الإدراك مرض، مرض حقيقي خطير! وإن إدراكاً عادياً كاف من أجل سعادة الإنسان. ويقول سيوران: الوعي لعنة مُزمنة وكارثة مهولة، إنه الإقصاء الحقيقي، فالجهل وطن والوعي منفى.
هل يمكن أن يكون ارتفاع مستوى الإدراك مرضاً يتطلب العلاج؟ أو مشكلة تتطلب الحل؟ أو هي مأساة تلازم المرء وتهدده بالجنون؟ أو على أقل تقدير تشويش يجلب الاكتئاب؟ حيث الاكتئاب في حقيقته نوع عميق من وضوح الإدراك! فمن المؤلم أن تدرك أن كل ما حولك بلا قيمة، وفارغ من المعنى، وكل أمر ذي دلالة خاوٍ وحتمي الهلاك.
بينما كافكا يقول: إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإسراف في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء.
والإدراك عملية عقلية يتم من خلالها معرفة كل ما يحيط بالإنسان في العالم الداخلي والخارجي، وهذه العملية لها تأثير بالغ على الأعضاء الحسية يفسرها الفرد على هيئة رموز أو معانٍ محددة ليستطيع من خلالها التفاعل مع بيئته.
والعجيب أن الإدراك العالي الممتزج بالسوداوية، ينتج عنه حساسية مفرطة وإغراق بالتفاصيل، وإسراف بالشك أمام الأحداث الغامضة، ولا أخال ذلك إلا عذاب نفسي ومكابدة روحية ضمن دائرة يصعب الخروج منها!
إن أغلال الفكر التي تقيد العقل وتجعله مكبلاً بالوعي ومكتَّفاً بالتروي، وفي توق دائم للمعرفة؛ تفقده روح البساطة والانسجام مع البيئة والمجتمع المحيط، فتجده متململاً من شدّة الإدراك، ضجراً من قوة الاستيعاب، مدركا بأن الدنيا التي يريد والحلم البعيد هو محضُ زيف يرفضه العقل وتنكره الفلسفة وتأباه المعرفة التي توغلت في عروقه فأفسدت عليه متعة الحياة البسيطة التي لا تحتمل قدراً من التفكير ولا تتطلب مزيداً من الإدراك، فالقليل يكفي لتعيش وتسعد!!