د.عارف أبوحاتم
مع اشتداد أوار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ارتفعت الأصوات القادحة والمادحة، وزادت ماكنة التضليل الإعلامي في أدائها، فالحروب الحديثة لا تمشي برجل واحدة، بل بثلاث أرجل: شركات السلاح، وشركات المقاولات وإعادة الإعمار وبيع الغذاء والدواء للحكومات والهيئات والمنظمات، وشركات الإنتاج الإعلامي، وما تبثه وتنتجه من مواد خادمة لأهداف المعركة.
ما أحدثته حركة حماس يوم 7 أكتوبر الجاري شق تاريخ المنطقة العربية إلى نصفين؛ وما كان قبل هذا التاريخ لن يكون كما بعده، وستظل آثار عملية «طوفان الأقصى» تمتد لعقود طويلة، ومهما قيل وسيقال عن هذه العملية فإن قناعتي أن حماس قد شربت السم الفارسي، وذهبت إلى حرب بلا رؤية، حيث وضعت كل احتمالاتها للعملية وتداعياتها، ولم تضع احتمالات عميقة للبعد الدولي وقوة اللوبي الصهيوني في مؤسسات القرار الغربي.
وقناعتي أيضاً أن إيران خاتلت حماس وواعدتها ثم دفعت بها وحيدةً، ثم انسحبت عند أول منعطف، قبل أن يكشف ضوء الفجر ملامح وجهها.
الخميس الماضي احتضنت الرياض مؤتمر القمة لدول الخليج ورابطة آسيان، وخلافاً للسائد المألوف في خطابات القادة والزعماء بأن يأتي الحديث عن أزمات الدول الأخرى في الفقرة قبل الأخيرة في كلماتهم الرسمية، جعل سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الحديث عن غزة في صدارة كلمته أمام قادة هذه القمة، عن جراح غزة وقال: نؤكد رفضنا القاطع لاستهداف المدنيين بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة؛ وضرورة وقف العمليات العسكرية ضد المدنيين والبنى التحتية؛ وتهيئة الظروف لإقامة دولة فلسطينية وفق حدود 67.
وهي رسالة قوية يفهمها جيداً من في الجوار: «بايدن» وإدارته و»سوناك» ومستشاراه اللذان تزامن وجودهما في إسرائيل مع انعقاد قمة الخليج وآسيان.
وكلمة ولي العهد تمثل أقوى موقف عربي وإسلامي تواجهه إسرائيل منذ بداية الحرب، وهو موقف يعني بالضرورة أن (السعودية) لا تزال صمام أمان متين للقضية الفلسطينية ولا يمكن لأحد أن يتجاوز قناعات دولة هي قائدة ورائدة للعالم الإسلامي، لا سيما وقد رأى العالم تكالب وتداعى أوروبا وأمريكا خلف إسرائيل واحتشادهم لدعم فكرة تهجير سكان غزة (2.3 مليون نسمة) إلى مصر، وسكان الضفة الغربية (3.3 مليون نسمة) وهو ما يعني تصفية القضية الفلسطينية، وخلق مبررات مستقبلية لصراعات عربية - إسرائيلية جديدة، لذا كانت كلمة ولي العهد واضحة بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية وفق حدود 67 لتعيش الدولتان العربية والعبرية بسلام.
كما أن كلمة سموه ذات اتساق تاريخي مع مواقف وقناعات آبائه وأجداده من قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، وليس بخاف على أحد مواقف الملك سلمان، والملك عبدالله، والملك فهد، والملك فيصل، وقبلهم جميعاً مواقف الملك المؤسس رحمه الله وطيب ثراه.
عقب عملية «طوفان الأقصى» بأيام باعت إيران تصريحات «دانكشوتية»، وأطلق حزب الله عددا من القذائف البسيطة على حدود إسرائيل، وكان هذا أقصى ما ساندت به إيران حليفتها الاستراتيجية حماس!.
ليدخل بعدها العالم العربي في دوامة غيرت أجندات جميع الدول، ومهما تعددت المواقف العربية والإسلامية المنددة بآلة الموت الإسرائيلية الحاصدة للأرواح والممتلكات في غزة؛ يبقى موقف المملكة العربية السعودية هو صمام الأمان الحقيقي للقضية الفلسطينية، بالنظر إلى اعتبارات كثيرة، أهمها أنه موقف صادر من دولة مكتملة السيادة والإرادة، ولن يستطيع أحد أن يملي عليها غير ما تريد، دولة وازنة في منطقة مختلة التوازن، ودولة حاضرة في قلب المشهد الدولي، مؤثرة وصانعة قرار.
وثقل المملكة الدولي له أسباب وجيهة، منها وزنها الاقتصادي، الذي تجاوز في السنوات الخمس الأخيرة سردية الاتكاء على عوائد النفط، وصار للصندوق السعودي للاستثمار موارد ضخمة شكلت علامة تحررية فارقة في موازنة الدولة.
ومنها أنها حاضنة المقدسات الإسلامية، وهذا أمر يعني في ضرورته أن ما لا يقل عن مليار مسلم يقفون على أصابع أقدامهم، ومستعدون للدفاع عن حاضنة الحرمين في أي لحظة.
ومنها تماسك جبهتها الداخلية، وهي ضمن دول قليلة في منطقة الشرق الأوسط لا تعاني من اضطرابات داخلية، ومرد ذلك إلى وجود نظام سياسي قوي وعادل، وحكمة في الإدارة يتوارثها جيل عن آخر.
ومنها خيرية المملكة العابرة للحدود والقارات، فمنذ أكثر من نصف قرن وهبات المملكة وصدقاتها ودعمها لمشاريع إنسانية، ومساندتها لدول وشعوب لم يتوقف.
ومنها أنها راعية -بل وسباقة- في احتواء كل خلاف عربي وإسلامي، وتُحْدِثُ علامات فارقة وتصنع تاريخاً وتحولات إيجابية عند كل صراع بين أبناء الوطن الواحد، والدم الواحد، والدين الواحد، وقد رعت خلافات بين الفصائل الصومالية والأفغانية واللبنانية والفلسطينية، وقادت اتفاقيات مصالحة بين الفرقاء اليمنيين، والفرقاء السودانيين، ولا تزال تمثل سنداً حقيقياً للقضيتين اليمنية والفلسطينية، وفي مطلع التسعينيات أسندت الظهر الكويتي حتى عاد إلى أرضه مرفوع الجبين.
ولا تزال المملكة العربية السعودية أكثر الدول الداعمة للقضية الفلسطينية منذ عهد الملك المؤسس حتى اليوم، ولا تطلب شكراً من أحد أو تَمُنُّ على أحد.
** **
- المستشار الإعلامي للسفارة اليمنية في الرياض