د. محمد بن إبراهيم الملحم
الحملات التي تطلق بشعارات «ارحموا فلان» و»أفرحوا أم فلان» وما إليها، ما هي إلا شعارات عاطفية لم تتفكر في مصير المجتمع، نعم نفرح بعفو ذوي المقتول عن فلان وفلان ولكن ياحبذا أن يكون عفوًا تلقائيًا، لا يبذل فيه المال ولا الجاه ولا تحشد له الحشود والحملات الإعلامية، لأن هذه كلها هي أساس المشكلة، إذ تعمل على تكوين أو تقوية النفس الأمارة بالسوء في داخل كل شاب معرض لحالات الطيش والتهور، فهي وقود سوء ومحرك فتنة وسفينة ضلال، عندما تتوقف هذه الحملات فإن حالات الشجار الدموي ستكون أكثر وعيًا وحكمة، ولا تمضي إلى التهور البشع الذي نراه اليوم. وأشير إلى أن ما يسمى صندوق القبيلة قد عاد وسيلة لإهلاك اقتصاديات الأسر المنتمية للقبيلة باقتطاع جزء من الراتب الشهري لصالح هذه الصناديق التي تهلك أموالها في فداء شخص قاتل، بينما كان من الممكن أن تنفق أموالها (لو لم يحدث القتل) في مساعدة الضعفاء والمحتاجين وعلاج المرضى ورعاية الطلاب المتفوقين ليدرسوا في أفضل المؤسسات داخل وخارج المملكة، ويرتقي مستوى القبيلة وتتحسن اقتصادياتها وبالتالي يسهم ذلك في بناء اقتصاد المجتمع. كما أني أتساءل كما يتساءل غيري عن حال والد المتوفى الذي يشترط للعفو عن قاتل ابنه عشرات الملايين يعلم أن جزءًا منها سيأتيه من جيوب موظفين ينفقون على أسرهم ولكنهم في حرج مع قبيلتهم إذ يدفعون ما يدفعون، كيف يا ترى تطيب نفس هذا الوالد أو ولي الأمر ويتنعم بهذا المال الذي هذا واقعه، وفي الوقت نفسه يأتيه عوضًا عن فقد ابنه الذي مضى ولن يعود أبدًا. ما طعم هذا المال وما قيمته وكيف تحلو الدنيا به وهو عوض ابنه فلذة كبده عوضًا ماديًا تم تقديره ووزنه بهذا الميزان، ولهذا كانت الدية محددة من الشريعة بمبلغ رمزي وليس مبلغًا يعادل قيمة الإنسان ذاته، وإلا فإن الإنسان لا عوض له، كما أن الهدف الأول من الدية ليس إغناء والد المقتول وإنما اتعاظ القاتل خطأ حتى لا يفرط مستقبلاً، كما أنه يقلل حدة غضب ذوي المقتول من جهة أخرى (وليس يكسبهم الثراء!) ولهذا كانت رمزية وليست قيمة مادية بحتة.
«ارحموا القتلة» هذا هو واقع شعار حملات ما يسمى بـ»عتق الرقبة»، لكن نقول أمامها «ارحمو المجتمع» وأوقفوا نزيف المشاجرات الدموية القاتلة، وأما هؤلاء القتلة فهم من شباب مجتمعنا الذي نعتقد أنه يحتاج إليه لبنائه وازدهاره ولا نكن لهم كرهًا أو مقتًا ولكن نراهم قد ابتلاهم الله بهذه الحادثة فصاروا عبئًا على مجتمعهم بدل أن يكونوا من بناته ومشيديه، فيكون قصاصهم عندئذ منفعة للمجتمع وضمانًا لاستقراره أكثر من بقائهم فيه، وهذا ما دل عليه معنى الآية الكريمة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، وكذلك كانت العرب قديمًا تقول «القتل أنفى للقتل». كل ما أتمناه أن تتدخل الجهات المسئولة بإيقاف حملات جمع التبرعات بهذه الطريقة، وكذلك تمنع صناديق الديات التي وضعتها بعض القبائل. ويتوقف أصحاب الجاه والسلطة عن الوساطة و»الجاهية» فهؤلاء هم الحكماء الذين نخاطبهم بمنطق هذه المقالة، وفي الوقت نفسه نعم للسعي في السر من أجل العفو، نعم أيضًا للتبرع الفردي بكامل مبلغ المصالحة المطلوب، لكن لا لجمع التبرعات ولا للحملات ولا للمطالبات ولا للضغط على ذوي المتوفى ويكفينا من القتل المتهور، كذلك أتمنى أن يهبّ المثقفون والمتنورون وأساتذة الجامعات «المنتمون» إلى القبائل ويتحدثوا عن سوء عاقبة مثل هذه الحملات في نشر التهور بالمجتمع، وإذا لم يتمكنوا فعلى الأقل أتمنى ألا يشاركوا في هذه الأنشطة تمامًا ويعلنوا أن مقاطعتهم لها عن قناعتهم لضررها على المجتمع، وليتحملوا ما يصيبهم من سفهاء الناس في هذا الشأن لمصلحة مجتمعهم ووطنهم، كذلك أتمنى على هيئة الإعلام المرئي أن تعتبر ما يبث من حملات أو محاولات الصلح والسعي فيها مخالفة إعلامية مبررة ذلك باعتبار ما تتضمنه هذه المادة الإعلامية تشجيعًا خفيًا على استمرار القتل والتهور، وأظنها فعلت إن كان ما وردني صحيحًا ولكن حبذا تكثيف الحملات الإعلامية حول مثل هذه القوانين، وكذلك التوعية حول الموضوع وجعله حديث الساعة، كما أتمنى على الإخوة الفضلاء رجال الشريعة والواعظين والمؤثرين دينيًا أن يتوقفوا عن دعم هذه الحملات بالثناء عليها ويكون موضوع أحاديثهم في فضل العفو عمومًا ولا يبثه أحد ضمن إطار حادثة معينة وإنما يبثونه هم في منصاتهم فقط، وأتمنى أيضًا على من ابتلاهم الله بقتل أولادهم في مثل هذه المشاجرات أن لا يستجيبوا لمناشدات العفو التي يصاحبها زخم إعلامي، ومن كان في نيته العفو فليبادر إليه قبأن يطرق بابه مروجو الحملات الإعلامية للعفو، وأتمنى أيضًا أن يصدر قرار بأن يحضر إلزاميًا واقعة تنفيذ القصاص على القاتل في حادثة مشاجرة كل من وقعوا سابقًا في حوادث مشاجرات دامية أخرى لم يترتب عليها موت أحد سواء الذين خرجوا من الإيقاف أو السجن أو الذين ما زالوا رهن الإيقاف أو السجن، فهذا هو ما يحقق «القتل أنفى للقتل»، وهؤلاء هم أولى الناس بمشاهدة هذا القصاص ولو مرة واحدة لكل منهم، والله الهادي إلى سواء السبيل.