عبدالوهاب الفايز
الوحشية والغطرسة الصهيونية انكشفت هذه المرة أمام العالم، وتحظى بالتفاعل الإنساني، بالذات تفاعل النساء والمراهقين، فهؤلاء خرجوا بصوت واحد وهو: أوقفوا الحرب، انهوا الاحتلال!
المظاهرات المزعجة لإسرائيل تخرج في الجامعات والمدارس والشوارع الأمريكية.. والتعاطف الأكبر يتجلّى بشكل عفوي وإنساني في حسابات التواصل الاجتماعي التي تتدفق فيها أشكال التفاعل مع القضية الفلسطينية.
وموقف الأجيال الجديدة في أمريكا يؤكد أن الشعب الأمريكي له نظرته الإنسانية الخاصة لما يجري في العالم.. بعكس موقف الحكومة والكونجرس اللذين أصبحا خاضعين للمصالح الصهيونية العليا، وهذه هي (ديموقراطية القلة) التي تتكشَّف للعالم تطبيقاتها في مرحلة الانحدار الأمريكي المخيف والخطير.
فصور الأطفال القتلى، أو الذين يكتبون أسماءهم على الأيدي والأرجل لتسهيل معرفتهم إذا تم قصف بيوتهم.. هذه الصور ساهمت في تدمير الصورة الناعمة لأمريكا. فالمجتمع الإنساني يتفاعل مع الطفولة بشكل سريع، صور معاناتهم تستدر المشاعر المؤلمة، فالطفولة مثل الموسيقى والفنون، ليس لها وطن، هي مشترك إنساني، واليهود حين يسوقون مآسيهم في الهولوكوست في الدراما السينمائية والتلفزيونية، كانوا يضعون المآسي للأطفال والنساء في المقدمة.
واستخدام الطفولة ساهم في تغيير مجرى التاريخ لليهود في أوروبا والعالم. وهذا الذي سوف تفعله عشرات الصور للأطفال القتلى وللرضع الذين يُخرجون من تحت الأنقاض. وهذه المشاهد تطوف العالم، بل الحسابات الخاصة بالمنظمات الإنسانية تضع التحذيرات للمتابعين من هول المشاهد الموجعة. وهذا التفاعل الإنساني الكوني مع المأساة الإنسانية في غزه تؤكد وبقوة أن العالم يشهد تطبيقات القرية الكونية.
الذي لن يكون في صالح إسرائيل - على المدى البعيد - هو تفاعل الشعب الأمريكي مع قتل الأطفال في غزة، فالتفاعل الكبير كشف أن المجتمع الأمريكي غائب عن فهم حقيقة الصراع في الشرق الأوسط. هذه الهزة العنيفة سوف تحدث أثراً وتحولاً تاريخياً إذا استمرت الأحداث بالشكل المأساوي التي نراها.
هذا التفاعل سوف يتواصل ويتوسع، ووسائل الإعلام الكبرى بالذات المتعاقدة مع المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط لن تتمكّن من التحكم في تدفق البيانات والمعلومات وبالتالي على المشهد الإعلامي، فوسائط التواصل الاجتماعي غيّرت قواعد اللعبة وأدخلت عنصر المفاجأة في المشهد السياسي، وهو الذي لم تتوقعه دوائر القرار في أمريكا.
المؤسسة الحاكمة في أمريكا تدمر سمعة بلادها في الخارج عبر تناقض موقفها من فلسطين وأوكرانيا. وقوفها المتحيز والداعم والمخزي مع إسرائيل يتعارض مع القانون الدولي الذي تحاكم به روسيا. المؤكد أن الصورة الناعمة الإيجابية للقوة الأمريكية تدخل مرحلتها النهائية بالذات بعد تكشف ازدواجية المواقف السياسية المتعددة من القضايا العالمية. النفاق السياسي المتجدد أكبر مهدد لصورة أمريكا الناعمة التي ظلت لعقود طويلة تعمل عليها وتكرسها. حماقة المؤسسة السياسية تنسف كل هذه المنجزات.
على جبهة أخرى، وسائل الإعلام الكبرى في أمريكا وأوروبا المتعاطفة مع الحكومة الإسرائيلية - بدون تحفظ - لم تتمكّن من حجب الأصوات المستقلة لأصحاب الفكر والرأي والتأثير الاجتماعي المستقلين بالذات في أمريكا وأوروبا. هؤلاء عادة يتم السيطرة على آرائهم وأفكارهم المستقلة والخاصة في قضايا الشرق الأوسط حتى لا تسمع. هؤلاء وجدوا أن التواصل الاجتماعي أداء فعّالة لتقديم وجهة نظرهم في الأحداث الساخنة. وهي طبعاً وجهة نظر مخالفة للمواقف التقليدية المعروفة بانحيازها لإسرائيل. هؤلاء يقدمون إلى الجمهور العريض في العالم سرديات ووجهات نظر مختلفة، وهذه من الأمور الإيجابية لتطور وسائل التواصل الاجتماعي.
حينما يتكلم الخبراء عن لعبة المصالح السياسية والاقتصادية التي وضعت في سياق مشاريع إستراتيجية بعيدة المدى ويطرحون تصورهم عن اللعبة الخفية للقوى العظمى.. هؤلاء عادة يُصنفون على أنهم مؤمنون بنظريات المؤامرة ولديهم أفكار مشوشة نتيجة جهلهم بحقائق الأمور. وعملية التجهيل المستمرة التي تتبناها وسائل الإعلام للنخبة الفكرية المستقلة لن تدوم مع تمكن هؤلاء من التواصل المباشر مع الجمهور.
الأحداث الجارية في غزة يراها المفكرون والمؤرّخون وخبراء الدبلوماسية المستقلون على أنها امتداد للمشاريع الكبرى السياسية والاقتصادية التي تسعى للهيمنة على العالم العربي، وهي امتداد للمشروع الأول (سايكس - بيكو) لذي قسم المنطقة ووزع الهيمنة عليها بين بريطانيا وفرنسا وأمريكا. وهذه المؤامرة الكبرى على المنطقة لم تعد خفيه ومنها تفرعت مشاريع تآمرية عديدة مستمرة حتى الآن.
بداية اللعبة الكبرى المعاصرة كانت في الحرب ضد السوفييت في أفغانستان، ثم الحروب في العراق، ثم تسهيل ظهور الجماعات الإرهابية، وتدمير الجيشين العراقي والسوري، وإطلاق الحروب في إفريقيا، وإطلاق حقبة الشعوب كما اسمتها هيلاري كلنتون، التي تمخضت عن الربيع/ الدمار العربي، والآن تشرف أمريكا على دفن القانون الدولي في غزة وتحول مشاهد الدمار إلى (نصب تذكاري) يكشف التعريف الحقيقي لحقوق الإنسان الذي تؤمن به المؤسسات الحاكمة في الدول الغربية! لقد جعلوها كلمة حق يراد بها باطل.
الأمر الذي ظلت النخب الفكرية والسياسية العربية تذكر به دوماً، الشعوب والقيادات، هو: احتمال تقسيم المنطقة من جديد. وهذا الأمر طرحه مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي، في كتابه (بين عصرين، 1970) دعا إلى إعادة تشكيل العالم العربي على شكل كانتونات عرقية ودينية وطائفية. وهناك مشروع برنارد لويس في مطلع الثمانينيات لتقسيم الشرق الأوسط الذي تبناه الكونجرس الأمريكي. ولويس الصهيوني كان منظِّر تيار المحافظين الجدد الذين وما زالوا يهيمنون على صنع السياسة الخارجية في أمريكا وبريطانيا مستغلين مكافحة الإرهاب.
وأيضاً نتذكر مجرم الحرب ناتنياهو عندما رفع خارطة المنطقة في الأمم المتحدة وفيها اختفت فلسطين. في الحرب الجارية شاهدنا البروز القوي السريع لتحالف أمريكي فرنسي وبريطاني، وهذا يجدد لدى شعوب المنطقة ذكريات التآمر عليها. لماذا نستبعد أن يعيد التاريخ نفسه. التاريخ يتحدث عن المستقبل.
مرة أخرى يُطرح السؤال المشروع: هل يمكن السلام مع دولة رفضت كل مشاريع السلام، وهل هناك من يصدق المشروع السياسي (الإبراهيمي) الذي يريد العبث في المنطقة ويوجد الغطاء للاحتلال ولمستقبل إسرائيل. مصادرة الوعي الجمعي صعب ومكلف جداً، خصوصاً مع التوجه الجاد الذي تراه الشعوب لدفن القانون الدولي في غزة.