عبدالرحمن الحبيب
رغم التطور العالمي المستمر إلا أن السلام العالمي لا يبدو كذلك، إذ يشير مؤشر السلام العالمي إلى تراجع مطرد في السلام العالمي منذ عام 2008. «منذ عام 2011 بدأت موجة جديدة من الحروب وارتفع عدد القتلى في المعارك، وهو ما يخالف الاتجاه الطويل نحو تحقيق قدر أكبر من السلام العالمي» حسبما ذكرت مجلة الإيكونوميست في إبريل الماضي. فماذا عن السلام داخل النفس البشرية؟
قد يكون العثور على السلام الداخلي في هذا العالم الفوضوي وسريع الخطى أمرًا صعبًا، إن لم يكن بعيد المنال، وفقاً لما ذكره تقرير استطلاعات مؤسسة غالوب مع بحث جديد لمؤسسة الرفاهية من أجل كوكب الأرض (WPE) التي عملت على توسيع نطاق كيفية قياس الرفاهية، ووجدوا أن المفاهيم الشرقية للرفاهية مثل الانسجام (التناغم والوئام) والاتزان الداخلي (سكون النفس) موجودة بكثرة لدى الكثيرين في جميع أنحاء العالم، على خلاف ما كان متوقعًا.
قد تبدو مفاهيم الانسجام والتوازن الداخلي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ولكنها ليست مترادفة، ويتم تعريفها بطرق عدَّة، ولكل منها حدود مفاهيمية «غامضة» كما يوضح البحث الذي يذكر أن الدراسات تشير إلى أنه يتم الاستناد إليها كمبادئ مهمة في سياق ظواهر متنوعة مثل العواطف، العناية، الدافع، الشخصية، النظام الغذائي، النوم، التمارين الرياضية، أنماط العمل والحياة، العلاقات، المجتمع..إلخ؛ علاوة على ذلك، حسب الدراسات أنه في وقتنا الحالي، يرتبط التوازن/ الانسجام بشكل خاص بالثقافات الشرقية، رغم أن هناك أفكارًا وتقاليد مهمة حول التوازن/الانسجام في الغرب، مثل فكرة أرسطو عن «الاعتدال الذهبي».
المدهش أن بحث مؤسسة الرفاهية بالتعاون مع نتائج استطلاع مؤسسة غالوب يشيران إلى أن الناس يمكن أن يشعروا بالسلام، حتى لو لم يكن العالم من حولهم كذلك. يقول غالبية الناس حول العالم (61%) إنهم يشعرون غالبًا أو دائمًا بالسلام الداخلي خلال الأوقات الصعبة.. ونتيجة لذلك ينبهان إلى أهمية إنشاء مجموعة جديدة من المقاييس الأكثر شمولاً والمقبولة عالميًّا لقياس أبعاد الرفاهية التي غالبًا ما يتم إهمالها، بما في ذلك «المبادئ المتناغمة» لها من خلال مبادرة الرفاهية العالمية، إلى جانب سؤال الناس في جميع أنحاء العالم عن السلام الداخلي والرضا عن الحياة.. ومن هنا فإنهما تستكشفان تجارب الناس في التوازن الداخلي والانسجام.
ومن نتائج الاستطلاع، على الصعيد العالمي، وفي كل منطقة من مناطق العالم، يقول عدد أكبر من الناس إنهم يشعرون بالانسجام، سواء مع الآخرين أو مع أفكارهم ومشاعرهم، أكثر من التوازن في حياتهم. يشعر معظم الأشخاص (80 %) دائمًا أو غالبًا بالانسجام مع الآخرين من حولهم، ويشعر 70 % دائمًا أو غالبًا بالانسجام مع أفكارهم ومشاعرهم. وعلى الرغم من أنهم لا يزالون أغلبية، إلا أن نسبة أقل بكثير (59 %) يقولون إنهم يشعرون دائمًا أو غالبًا أن الجوانب المختلفة من حياتهم متوازنة، وما يقرب من (57 %) يجدون أن كثيرًا من الأشياء التي تحدث في حياتهم صحيحة.
فهل يرتبط الانسجام والتوازن بشكل إيجابي بالتنمية العالمية؟ يقول البحث إنه في حين أن مقاييس الانسجام والتوازن لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمقاييس مؤشر السلام العالمي، إلا أنها ترتبط بشكل إيجابي بالمعايير المعترف بها عالميًّا مثل مؤشر التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة (HDI). هذا المؤشر للتنمية البشرية يوفر مقياسًا موضوعيًّا للتقدم الذي تحرزه الدولة في تحسين نوعية حياة الناس، بما في ذلك صحتهم وتعليمهم. ويؤكد أن «الناس وقدراتهم على التحسن يجب أن تكون المعيار النهائي لتقييم تنمية أي بلد، وليس فقط النمو الاقتصادي».
من المثير للاهتمام - حسب بحث غالوب - أن مشاعر التوازن لدى الناس ترتبط بشكل إيجابي وقوي بمؤشر التنمية البشرية أكثر من الانسجام. ولكن هناك استثناءات، فدول فقيرة جدّصا (وإن كانت قليلة) أبلغت عن مستويات عالية نسبيًّا من الانسجام والتوازن، على الرغم من انخفاض تصنيف بلدانهم على مؤشر التنمية البشرية. وعلى العكس من ذلك، فإن ليتوانيا، التي حصلت على درجة عالية نسبيًّا على مؤشر التنمية البشرية، لديها مستويات أقل من التوازن والانسجام.
وتعد هذه النتائج في هذه الدول الفقيرة مثيرة للاهتمام بشكل خاص، لأن الانسجام الداخلي المتزايد قد يجسد المرونة البشرية تجاه المصاعب، مما يشير إلى أن هؤلاء السكان يجدون السلام في الداخل وسط الفوضى الخارجية. وإلى جانب العلاقة القوية مع مؤشر التنمية البشرية، هناك علاقة قوية مع مؤشر التقدم الاجتماعي الذي يحتاج إلى دراسة أخرى كما يوضح البحث المذكور.
يخلص البحث إلى أنه إذا كان الناتج المحلي الإجمالي يعد من أهم المؤشرات، إلا أن السلام يدور حول أكثر من ذلك؛ وإذا كان تراجع السلام العالمي وارتفاع مستويات التعاسة على مستوى العالم يدلان على أي شيء، فهو أنه على القادة الاهتمام بجميع جوانب رفاهية الناس.. وبينما تتوسع الأبحاث العلمية حول الرفاهية، لا يزال معظم صناع السياسات يركزون بشكل ضيق على المقاييس الاقتصادية من أجل التقدم المجتمعي، وينبغي على قادة العالم النظر في اتخاذ تدابير جديدة وشاملة للرفاهية الذاتية لفهم حياة الأشخاص الذين يقودونهم بشكل أفضل من أجل إعطاء فرصة للسلام..