اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من الواضح أن الكيان الإسرائيلي الذي اغتصب الأرض وانتهك العرض، يستند في ممارساته وسياساته إلى الأصول الدينية المنحرفة والأيديولوجية المزيفة التي تقدس الحرب وتجعل القوة في الحق، متخذاً من القتال والعنف وسائل لتحقيق أهداف إسرائيل مع الربط بين العمل العسكري والاستعمار الاستيطاني على النحو الذي يدعم كل منهما الآخر من خلال السيطرة على الأرض بالقوة العسكرية، ومن ثم استيطانها واستعمارها وتجسيد الواقع المفروض عليها بأبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وهذا الكيان في تكوينه يشكل مجتمع عسكري يعتمد على سياسة القوة، ويتكيف ويتطور مع الوقت بما يخدم أهداف إسرائيل وأمنها القومي بحيث يجري التفاعل بين العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يتألف من الغزاة القادمين من الشتات، والذين جعلت منهم الصهيونية والإمبريالية والاستعمار دولة ذات هوية يهودية ونزعة عنصرية واستعمارية.
والواقع أنه منذ أن غزت إسرائيل أرض فلسطين واحتلتها وشردت أهلها خارجها، وهي تتوسع داخل فلسطين وخارجها، مستخدمة العمل العسكري الذي يكرس الاحتلال بشكل يتبعه استعمار استيطاني، يتحول إلى حق مكتسب وواقع مفروض نتيجة للسيطرة على الأرض واستيطانها، وفرض الأمر الواقع عليها بصورة متكررة يتم على ضوئها الانتقال من وضع إلى آخر، وكل وضع جديد يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى تتطور أحداثها العسكرية والسياسية تبعاً لما ينص عليه المخطط الصهيوني المرسوم.
والدولة العبرية منذ تأسيسها وجدت لها مكاناً تحت مظلة الدول الاستعمارية، حيث قامت على أكتاف هذه الدول، متنقلة من حضن إلى آخر حتى استقر بها المقام في كنف الولايات المتحدة الأمريكية التي قطعت على نفسها عهداً، ووعدتها وعداً بأن تقوم بحمايتها والمحافظة على أمنها وضمان تفوقها العسكري في المنطقة، مقابل اعتبارها بمثابة قاعدة لها تنطلق منها لحماية مصالحها الجيوسياسية وخدمة أهدافها الاستراتيجية ومشاريعها الاستعمارية.
وقد استفادت إسرائيل من ضعف العرب وانفصال قضية فلسطين عن عمقها العربي والتفرد بها، كما استفادت من الزمن الطويل الذي قضته تحت مظلة الحماية الأمريكية والغربية، وتمكنت من تطوير نفسها في المجال العسكري والتقني رغم عزلتها السياسية وضيق مساحة دولتها الجغرافية وحدودها ذات التهديدات الأمنية، علاوة على ما يعانيه شعب إسرائيل من انقسامات وتناقضات تؤثر بشكل سلبي على المواطنة والوطنية والانتماء والهوية.
وما يحدث في غزة من أحداث دامية وإبادة جماعية ما هو إلا توطئة لما ينتظر سكانها من التهجير وسوء المصير على حساب الجوار المثقل بالجراح والمغلوب على أمره، دون أن تحسب إسرائيل حساباً للقوانين الدولية والأعراف المرعية والمعاناة الإنسانية والاعتبارات الأخلاقية، وذلك يعتبر نتيجة طبيعية للصلف الممنهج والعنف المبرمج وتكملة للمخطط المرسوم الذي يحاك ضد المنطقة من قبل أمريكا والدول الأوروبية المتحالفة معها التي تتخذ من دولة إسرائيل قاعدة متقدمة لها تفصل بين شرق المنطقة العربية وغربها للحيلولة دون وحدة دولها وسلب ثرواتها والاستفادة من موقعها واستعمارها من جديد.
ومَن يمعن النظر في مأساة غزة الإنسانية وما يعانيه أهلها من الحصار والحرمان وخضعوهم لصنوف القتل والتهجير القسري وتدمير المساكن على رؤوس سكانها، يمكنه الربط بين الفعل ورد الفعل عندما يلقي نظرة فاحصة على الذريعة المبرمجة والجريمة الفظيعة الممنهجة التي يتعرض لها المدنيون العزل الذين لا ذنب لهم في الاقتراف السابق والاستهداف اللاحق.
وقد اعتادت إسرائيل فيما خاضته من حروب على تضخيم قوة العدو والنفخ في بالونة واختلاق الذرائع لتبرير ارتكاب الفظائع والجرائم ضده، واصفة المقاتل العربي بأنه إرهابي ووحش مفترس يتربص بكل يهودي ليفترسه ويرمي بجثته في البحر، وذلك لزيادة إصرار المقاتلين اليهود على التضحية بالنفس وحشد القوى لمواجهة الخطر المحدق الذي لا مهرب ولا مناص عن مواجهته، واعتبار هذا التحريض بمثابة حافز إلى حب البقاء وخلق المقاتل العنيد الذي لا يقبل الهزيمة لما يترتب عليها من سوء المصير والشر المستطير.
والتهويل من شأن قوة العدو والخوف من إرهابه والتظاهر بالضعف أمام الخطر المزعوم والإرهاب الموهوم يعطي إسرائيل ذريعة لرد الفعل المبالغ فيه، كما يعطي مبرراً للتدخل الخارجي من قبل القوة الاستعمارية المدافعة عن إسرائيل وحشد قواتها والتأهب لمساندتها بالإضافة إلى أن التظاهر بالضعف يؤدي إلى تعاطف الرأي العام الدولي ووقوفه إلى جانبها.
وإمعاناً من الدولة العبرية في الخداع والتظاهر بالضعف لتغطية القوة من أجل التمهيد للنصر والتكتم عليه تلجأ إلى المجازفة بأرصدة الجبهة الداخلية من المعنويات، حيث تعمد إلى توجيه وسائل إعلامها بتضخيم قوة الخصم والشعور بالنقص أمامه والخوف من مواجهته وربط الهزيمة والفشل بالموت والفناء والبقاء والحياة بالنصر.
وعلى الجانب الآخر فإن العرب في المراحل الأولى من الصراع كان شغلهم الشاغل التقليل من شأن الخصم والقول المبالغ فيه بعيداً عن الفعل، وأغلب الوقت يغطون في سبات عميق حتى ايقظتهم حرب النكسة عام 67م، وما صاحبها من حريق وترتب عليها من الخذلان والهوان والبعد عن التوفيق.
والنكسة ليست هزيمة عسكرية فحسب، بل هي أزمة مصداقية ونكسة إعلامية، فبين من يتوعد بإلقاء إسرائيل في البحر ومن يزيف الحقائق ويصنع الأوهام، مدعياً انتصار الجيوش العربية في الوقت الذي تتعرض فيه هذه الجيوش لأسواء هزيمة في تاريخها، وإسرائيل هي التي اضطرت الكثير من الفلسطينيين إلى المغادرة عبر البحر والقت بهم في الشتات والمهجر.
وإذا كان كل يوم يشكل امتداداً لأمسه والشيء يُذكَر مع جنسه فإن حرب غزة الحالية التي تعربد فيها إسرائيل بآلتها الحربية وتقتل البشر وتدمر المقر في حرب لا تبقي ولا تذر ضد الشعب الفلسطيني الأعزل أدى إلى تأجيجها أولئك الذين يدعون الانتصارات الوهمية والدفاع عن القضية الفلسطينية، الأمر الذي زاد من معاناة هذا الشعب المناضل والمكافح الذي قدم التضحيات، وقاد الانتفاضات من أجل مقاومة المحتلين وتحرير فلسطين.
وحرب رمضان أعادت إلى الأمة العربية شيئاً من الاعتبار، كما أن المبادرة العربية وحل الدولتين كان لهما تأثير إيجابي على المسار السياسي بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولكن ما يحدث في غزة نسف كل الحلول المأمولة والجهود المبذولة، مخرجاً القضية عن إطارها ومنحرفاً بها عن مسارها بشكل تجاوز الحدود وكسر القيود ومن الصعب السيطرة على تداعياته مع اختفاء بعض تنظيمات الداخل العميلة وأطراف الخارج الدخيلة ذات التوجهات المشبوهة والممارسات المكروهة.