اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
كما هو معروف أن المتحدث كلما علا شأنه وارتفع مكانه، كلما كان كلامه محسوباً عليه، لما له من تأثير في المتلقي الذي يتأثر بما يسمع، ويتكون لديه انطباع يستحكم تأثيره ويصعب تغييره.
وإذا كان حديث المتحدث يُنظر إليه بأنه عنوان عقله ولسان فضله، فكيف به إذا هو يتربع على قمة الهرم والعيون له راصدة وعلى ما يقول شاهدة. في الوقت الذي يعتبر فيه قدوة للأجيال تماري به في كل حال وتعقد عليه الآمال.
وصاحب المنصب القيادي والمسؤولية الوطنية عندما يتحدث عن قضايا وطنية وأمور مصيرية تهم الوطن في موقف مشهود يُمثِّل من خلاله وطنه، فإن المشهد الماثل فرض عليه الحضور أمام أبناء شعبه الذين يرون فيه القدوة وحسن الأسوة ويرفعون له الراية إلى النهاية.
وعلى الجانب الآخر فإن الظهور بالمظهر المشرِّف يفوِّت الفرصة على أهل الحسد وأرباب المعاندة والنكد من أعداء المروءة الذين يتجاهلون المناقب ويبحثون عن المثالب وإذا رأوا خيراً ستروه وإن رأوا شراً أظهروه.
وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذ أهدابه ويُذكّر بما قارب ناحية من أنحائه، وجاذب حاشية من ردائه، فإن مقابلة ولي العهد مع إحدى القنوات الأمريكية، وما تخللها من أسئلة وإجابات ذات مضامين بعيدة وعناوين جديدة أثبت ولي العهد من خلالها بعد نظره، وقدرته على تحويل السؤال إلى جواب، والجواب غاية في الإعجاب، عارفاً كيف يجيب فيصيب، ومتى يحتاج أن يصول عندما يقول، جامعاً بين الوضوح المطلوب في الإجابة والطموح المحسوب حسابه.
وكانت إجابات سموه تحيط بالمعنى وتكشف عن المغزى بعيدة عن التعقيد الممل والتأويل المخل حيث جمعت الإجابات بين سياسة القول وكياسة المدلول، مستوفية خصال اللسان الجوهرية وحالات البيان الضرورية مع استخدام لغة الأرقام والمصطلحات أفضل استخدام، والالتزام بتوضيح ما تعنيه أكمل التزام دون أن تطغى الوسيلة اللغوية على الغاية والهوية.
وجميع إجابات سموه على الأسئلة المطروحة تتسم بالصدق والوضوح، إيماناً منه بأن من تمام الصدق الإخبار بما تتقبله العقول، وأن من صدق في كلامه قويت حجته وزادت مهابته، منزهاً نفسه عن الكذب والتدليس والتلبيس والنفاق السياسي الذي يبيح للمنافق اعتبار الغاية تبرر الوسيلة ومناقضة القول للفعل.
ورغم أن سمو ولي العهد لا ينكر القول بأن السياسة فن تحقيق الممكن ويقر العمل الدبلوماسي الذي يداري ولا يداهن إلا أنه ينكر الخبث السياسي والممارسات السياسية الموغلة في الضلال وسوء الأعمال، ويضع السياسة في إطارها الإسلامي الصحيح الذي يؤطرها بالعقلانية والقيام على الشيء بما يصلحه، معتبراً الذكاء والفطنة المداراة من متطلباتها، كما ينظر إليها من منظور القائد المطبوع الذي ينأى بنفسه عن ممارسة خداعها ونفاقها، وفي الوقت نفسه لا ينطلي عليه خبث ومكر أصحابها، محاولاً الاستفادة من إيجابياتها وقوتها الناعمة، وتحييد سلبياتها وممارساتها الآثمة، وكما قال عمر بن الخطاب: لست بالخب والخب لا يخدعني وهذا يعني أنه ليس بالمخادع الماكر الغادر ومَنْ هذه صفاته لا يخدعه.
والواقع أن سموه لم يتقلد المناصب من فراغ وإنما ترسم خطى الآباء والأجداد الذين يشهد على تاريخهم الحافل بالأمجاد ما سطره على الورق اليراع، متوجاً سموه هذه التاريخ بحاضرٍ حافل بالإنجازات التي شاع ذكرها الحسن وذاع وانتشر في مختلف الأصقاع، شاهدة على ما وصلت إليه المملكة في جميع المجالات من العلو والارتفاع بفضل السياسة المعتدلة والدبلوماسية الفاعلة والنهضة الشاملة والتطلعات المشروعة والكلمة المسموعة وقد قال الشاعر:
شرفٌ تنقل كابراً عن كابر
كالرمح أنبوباً على أنبوبِ
وخليق بمن هذا واقعه، ودائماً تدفعه إلى الأمام دوافعه، وأضاف مكارم الأخلاق إلى شرف الأعراق وجمع بين موهبة القيادة وقوة الإرادة أن يثق في نفسه وفي أبناء شعبه، كما هو الحال بالنسبة لولي العهد، حيث تشهد سجلات السيرة واضابيرها ورؤية 2030 وتفسيرها على ما يتحلى به من ثقة متناهية أينعت ثمارها واستقام مسارها من خلال الكثير من الإنجازات والنجاحات والمواقف المختلفة ذات السمة التطويرية والصيغة الإبداعية بما في ذلك المقابلة مع القناة الأمريكية وما تضمنته من إجابات مفصلية وتطلعات مستقبلية، محصنة ضد التحريف ولا تقبل التسويف، وقد قال الشاعر:
لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطنٌ
لما يشق على السادات فعالُ
والموضوعات التي تطرق إليها سمو ولي العهد أثناء المقابلة من الصعب الحديث عنها كاملة في هذه المقالة، وسوف أكتفي بالإشارة إلى بعضها، حيث تم استهلال الحوار بالتركيز على حاضر المملكة المتغير والمتطور ومستقبلها الذي يبشر بالاستقرار والازدهار والاستمرار، واعتبار رؤية 2030 وما تمخض عنها من إنجازات وإصلاحات قصة نجاح تستمد نجاحها من إيمان الشعب بالتغيير وسرعة وتيرة تقدم المملكة ومنافسة الغير بفضل اقتصادها القوى وتنميتها المستدامة ونهضتها الشاملة، وما تحظى به من أهمية ومكانة مرموقة على المستوى الإقليمي والدولي.
وقد أشار سمو ولي العهد إلى أهمية توازن القوى في المنطقة، موضحاً أن إيران لو حصلت على سلاح نووي فلابد من حصول المملكة على هذا السلاح لكي يتوفر عامل الردع ويحصل التوازن المطلوب من أجل الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها، وجعلها في منأى عن حافة الهاوية والتهديد من طرف واحد.
وحول القضية الفلسطينية، أكد سمو ولي العهد على حرص المملكة على إنهاء الصراع مع إسرائيل وحل القضية الفلسطينية بما يكفل مصلحة الشعب الفلسطيني، ويضمن حقوقه المشروعة داخل دولة مستقلة وذات سيادة، وفقاً لحل الدولتين والمبادرة العربية، والحوار مع الجانب الأمريكي يسير في هذا الاتجاه.
وموقف ولي العهد من القضية الفلسطينية هو موقف المملكة الثابت في الماضي والحاضر، ولكن المتغيرات تفرض حضورها وتلعب دورها والذي لا يستشرف المستقبل وينظر إليه عن بعد يخسر الحاضر والمستقبل، وهناك تنظيمات داخل فلسطين وأطراف خارجها تعمل ضد القضية وتتاجر بها وتساوم عليها لأهداف ملتوية ومصالح شخصية، مستخدمة الشعارات الكاذبة والمزايدات الخائبة لتغطية مآربها الخبيثة والتمويه على علاقاتها المشبوهة وممارساتها المكروهة.
ومن طبيعة الأمور في حالة المحاورة عن طريق السؤال والجواب أن المبادرة تكون مع الذي يطرح السؤال وانتزاعها منه يعتمد على إجادة الإجابة التي تعتمد على حضور ذهن المجيب وثقافته وإلمامه بحيثيات موضوع السؤال المطروح، وسمو ولي العهد انتزع المبادرة في جميع إجاباته، محترماً الكلمة ومجيباً عن السؤال بشقيه المعلن والمبطن، واضعاً النقاط على الحروف بكل شفافية ووضوح.
وفي الختام، فإن سمو ولي العهد من خلال نفحاته القيادية ومبادراته غير العادية وسيرته العملية، أكد للجميع ما يتحلى به من دلائل القيادة ومخايل السيادة التي تمثل رؤية 2030 ثمرةٌ من ثمارها، جامعاً بين فضائل الإقبال على العمل والعقل المكتمل والرأي الجزل والمنطق الفصل، وهي فضائل لا يمتلك ناصيتها ويقطف ثمرتها الا عظماء القادة الذين ساهموا في صناعة التاريخ وأعمالهم ترجح بكفة الميزان، ويكسبون الرهان في الميدان، ويشار إليهم بالبنان في كل زمان ومكان.