عبدالوهاب الفايز
الأمر الثابت في نزاعات الشرق الأوسط، ونراه الآن في حرب الغرب على غزة، هو المسارعة لاقتناص الفرص، كأنهم مبرمجون للتحرك السريع على عدة جبهات ويعرفون ماذا يفعلون، فالمحاربون على الجبهة الدينية يطلقون نواياهم لعودة الحروب الصليبية المقدسة، والجماعات الدينية المسيحية واليهودية تجد الفرصة لتقول للعالم: هذا هو الإسلام دين إرهاب! والسياسيون المتعطشون للسلطه يتسابقون إلى التأييد المطلق لإسرائيل، وكغطاء وتعمية على هذا الانحياز يستخدمون النظريات الأخلاقية الغربية لتمدين الشعوب المتخلفة التي طوروها في حروبهم الوحشية البربرية لاحتلال إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، فهذه حيلة خبيثة لتحويل الضحية إلى مشكلة للحضارة الإنسانية. قادة إسرائيل قالوا للعالم بكل وقاحة: إنهم مكلفون بمهمة إنسانية وهي: التخلص من الحيوانات البشرية في فلسطين!
في مقال الأسبوع الماضي قلنا إن السلام مع إسرائيل لن يتحقق، وبعد الأحداث المروعة على الأرض، وبعد انطلاق الدعاية الإسرائيلية لشيطنة المسلمين وربط الدين الإسلامي والثقافة العربية بالإرهاب، بعد هذا العداء السافر نجزم أن حلم السلام لن يتحقق. المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية والجيش أعطت نفسها الحق لتصف الشعوب العربية بالبربرية والتوحش. تجاهلوا أكثر من سبعين عاما من القتل والإرهاب. وفي غمرة الدعم الغربي نسوا أيضا مشروعهم الذي خططوا له منذ سنوات بعيدة وهو تأسيس (الدولة الإبراهيمية) في الشرق الأدني.
مع الأسف هذا هو الغرب.. وسيبقى هو الغرب. غطرسة القوة في دمه أصبحت مرضاً عضالاً يحجب عنه الحقيقة، يرى العالم كما يريده، استكبار فرعون {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى}، طور القدرة البارعة على تزييف الأشياء ولن يتغير. ويبدو أن عالمنا قدره أن يمضي إلى حيث يريد الغرب، أي الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا.
الذي تكتشفه شعوب الشرق، ومعها بقية العقول والضمائر الواعية في الغرب، هو تكشف حالة النفاق وازدواجية المعايير في أمور عديدة ظل الغرب ينافح ويكافح عنها. فكما تكشفت في أوكرانيا، يتكشف الآن في الحرب الوحشية على غزة.
لقد كشف الغرب عن موقفه المزدوج من حرية الصحافة. الصحفيون العاملون في الإعلام الغربي يتم فصلهم أو توبيخهم لأنهم عبروا عن رأيهم في حق الشعب الفلسطيني للدفاع عن نفسه. ورغم أنهم بأعداد كبيرة، فهذا لم يحرك منظمات حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن حريات الصحفيين كما فعلت في مقتل صحفي واحد. هل تجرؤ هذه المنظمات على انتقاد مؤسسات إعلامية يديرها ويمتلكها اليهود الملتزمون بالمشروع الإسرائيلي في المنطقه؟
في موضوع حقوق الإنسان الذي يضعه الغرب في أولوياته نرى ازدواجية المعايير تتجدد، فقادة الدول تسابقوا لإعطاء قادة إسرائيل الضوء الأخضر لارتكاب الإبادة الجماعية، فإسرائيل لها الحق الكامل في الدفاع عن نفسها، وهذا يعطيها أيضا الحصانة الدولية ضدّ الاتهامات بارتكاب جرائم الحروب. لقد سخر العقلاء من طلب الجيش الإسرائيلي إخلاء غزة في أربع وعشرين ساعة. كما سخروا من موقف الاتحاد الأوروبي تجاه حقوق الإنسان، فقطع الماء والكهرباء عن المدنيين في أوكرانيا جريمة حرب، وفي غزة اعتبره الاتحاد ضرورة أمنية لإسرائيل!
أما موضوع الحريات الأكاديمية فقد تمت إعادة تعريفه، فالجامعات مثل هارفارد وستانفورد ونيويورك أعلنت الانحياز الكامل للرواية الإسرائيلية. هارفارد قررت معاقبة الطلاب الذين وقعوا بياناً مشتركاً يُحمّل (النظام الإسرائيلي كامل المسؤولية عن العنف)، ويؤكّد أن عملية حركة حماس (لم تأتِ من العدم)، وأن (العنف الإسرائيلي يهيمن على كل جوانب الوجود الفلسطيني منذ 75 عاماً)، وبعض رؤساء الشركات يطالبون بالكشف عن أسماء الموقّعين لضمان عدم توظيفهم في المستقبل! هذا هو الغرب معقل الاستناره والحرية.
أيضا ازدواجية المعايير رأيناها في ميدان الفكر والثقافة، فالغرب يطالب بإبعاد الثقافة عن السياسة. في معرض فرانكفورت للكتاب انسحبت الدور العربية عندما أعلن منظمو المعرض عن تضامنهم الكامل مع إسرائيل وإلغاء حفل توزيع جائزة الروائية الفلسطينية عدنية شبلي. هذا أغضب اتحاد الكتاب العرب ومشاركين آخرين بالمعرض ودفع عدة مؤسسات للانسحاب.
أيضا موضوع الشفافية والنزاهة طالته ازدواجية المعايير بالذات في وسائل الإعلام. للتغطية على الوحشية في غزة استجلبوا خبرتهم الطويلة مع الكذب وتزييف التاريخ. استثمروا نظرية وزير الدعاية النازية جوبلز أكذب ثم أكذب ثم أكذب، وأول من استخدمها الـ(سي أن أن). فحين أعلنت الحكومة المتطرفة الإسرائيلية الحرب كان من الضروري التمهيد للرأي العام الغربي بقصة درامية. وهنا تم اختراع قصة قطع رؤوس أطفال إسرائيليين على يد عناصر المقاومة الفلسطينية. صاحبة القصة مراسلة شبكة (سي أن أن) سارة سيندر، اعتذرت عن ترديدها، ونشرت الجمعة تغريدة على موقع «إكس» قالت فيها، إنها تأسف لنقلها مزاعم عن «قطع رؤس أطفال إسرائيليين» خلال بث مباشر. هذه القصة طارت بها ركبان المؤسسات الإعلامية الكبرى ورددها الرئيس الأمريكي قبل أن يكتشف أنها رواية إسرائيلية كاذبة، فتراجع، وتسابق إلى ترويجها الساسة الأوروبيون.
هذه المكينة الإعلامية هي المنتج الذي تعتز به حضارة الغرب المعاصرة. ازدواجية المعايير في مؤسسات الإعلام والفكر الليبرالية التي تدافع عن التنوير هناك من يراها أمرا عاديا لا يستحق الاستغراب والإنكار. هي جزء من حضارة بنيت من الثروات المنهوبة. هذه المؤسسات الإعلامية ورثت عن حضارتها قيمها الأساسيه وأخلاقياتها التي ترى الأشياء بمنظارها الخاص وتقيس الناس بمعاييرها وخير مثال قصة (سرير بروكروستوس) اليونانية. كان بروست يمتحن طول أجسام الناس في القياس إلى حجم سريره الحديدي المسبق الصنع. وكان يعيد تفصيلهم قسرا بما يتناسب مع حجم السرير. وكان يقطع الفائض في الطول عند اللزوم ويشد ويمد قصار القامة حتى تتلاءم أحجامهم مع حجم السرير. وهذا ما تفعله الدول الغربية: اخضاع كل شيء إلى سريرها الحديدي، وعلى المستوى الإنساني فالغرب له مقاييسه. لماذا تستنكرون!
حتى يوم الجمعة الماضي أعلن سلاح الجو الإسرائيلي أنه أسقط أكثر من 6000 قنبلة على قطاع غزة منذ الهجوم السبت الماضي، أي اسقط في أقل من أسبوع أكثر مما أسقطته الولايات المتحدة من قنابل في حربها بأفغانستان خلال عام واحد في منطقة أصغر بكثير من أفغانستان وأكثر كثافة سكانية منها. والقادم اعظم! ثلاثون عاماً والمنطقه تتتعاظم نكباتها، فشعوبها تدفع ثمن التدخلات المدمرة في شؤونها الداخلية، وأمريكا وحلفاؤها الغربيون ظلوا الطرف غير المحايد الذي يحمي الإرهاب الإسرائيلي.. والعقاب الشامل للشعب الفلسطيني يقدم للعالم على أنه دفاع النفس!