د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ مدة طويلة علّمنا الغرب «المتحضِّر» أن العلمانية هي البديل الأمثل للدين، وأن الليبرالية هي الحضارة والتعايش والاعتدال، وحتى نكون متمدينين علينا أن نكون علمانيين ليبراليين نجتهد في عزل الدين عن السياسة، والنظر للدين على أنه تخلف، والعمل على هدم أسسه في النفوس، وتنقية المناهج والخطاب اليومي من مفرداته. العرب مخلصون في التعلّم، على الرغم من مواقف الغرب المخاتلة التي لا تترك خلافاً مع العرب دون أن تعلن اصطفافها على أساس ديني، بينما العرب منهمكون في نقض كل مقومات قوتهم ووحدتهم ووجودهم.
ما يحدث في غزة تمت التهيئة الفكرية والاستخبارية لميدانه على مدى عقود من الزمن، وتم تفكيك الرواية المقابلة أو إضعافها لتصل لمرحلة التلاوم على أرض هشة غير قابلة لتأسيس موقف رافض للقرار الإسرائيلي الغربي الذي ينتصب صلباً، صلفاً بتكاتف وثيق بين السياسي، والديني، والإعلامي والتجاري.
لا إسرائيل تخفي يهوديتها، بل هي الدولة الوحيدة في العالم التي أعلنت قيامها على أساس ديني (قانون يهودية الدولة)، ولا الغرب ينفي أنه يقف مع إسرائيل على مبدأ ديني، لكن الطرف المقابل يخجل من استدعاء الدين أو العروبة أو حتى الحمية الجاهلية إلى روايته.
قوالب استهداف العرب في وجودهم تتكرر، ولا غضاضة من التكرار عندما يتمتع الضحايا بذاكرة مرتبكة وغير مستندة إلى فكرة مشتركة توحّدهم. فبعد أحداث سبتمبر 2001م الإرهابية (وهي تشبه صناعة أكتوبر 2023م، والضلع الثالث في المخطط مشترك بين الحدثين) وُضع المسلمون عموماً والعرب خاصة تحت لافتة كتب عليها «الإرهاب» ليسهل استهدافهم دون تمييز، بحجة مكافحة الإرهاب في صفوفهم، ولم يجرؤ أحد على الاعتراض. اليوم يوضع الفلسطينيون جميعاً، في هذه اللحظة المؤلمة تحت راية «حماس» ليسهل قتلهم وتهجيرهم، ولا بواكي دولية لهم. سيستمر استنساخ الأسلوب كلما أريد الفتك بالعرب، ولكل وقته الموعود؛ إذا كان لدى الفلسطينيين الأرض الموعودة التي وجب تهجيرهم منها، فإن لدى بقية العرب المصادر اللازمة لتمويل رحلة المسيح الثانية إلى الأرض.
السيناتور الأمريكي ليندسي جراهام كتب في تغريدة له في منصة X: «نحن في حرب دينية وأنا أقف مع إسرائيل ...». وصرح وزير الخارجية الأمريكي في تل أبيب بأنه قدم كيهودي، وأن إسرائيل لن تضطر للدفاع عن نفسها طالما أمريكا موجودة. وقبلهم لوح الرئيس جورج بوش الابن عام 2001م بالحرب الصليبية.
نظام الحكم علماني، ومؤسسات الدولة علمانية، في أمريكا، لكن القَسم على الإنجيل، والناخبون المتدينون يقررون إلى حد كبير مصير السياسيين. العلاقة بين الدين والعلمانية والسياسة مصيرية وتكاملية وليست قطيعة على غرار ما يحدث في الطرف المقابل. أمريكا يحدد هويتها ثلاثة مكونات هي المسيحية، العرق الأبيض، والديموقراطية، فماذا يؤطر هوية الضحايا؟
لم تتسبب أمريكا في المحرقة التي حدثت لليهود في أوروبا، ومع ذلك أخذت على عاتقها دعمها وحمايتها أكثر من أية دولة أخرى، وفي القرب منها يتنافس المرشحون لأي انتخابات أمريكية محلية أو فيدرالية، بخلاف الدعم الإعلامي والفكري والاقتصادي. حماية إسرائيل قضية معتقد ديني بالنسبة للأمريكيين، فالإنجيليون والناخبون اليهود الأكثر يمينية ينتخبون إلى حد كبير بناء على موقف المرشح من إسرائيل.
يعتقد العديد من الإنجيليين أن الله قطع عهداً أبدياً مع إبراهيم ونسله يتضمن الوعد بالأرض، وإسرائيل المعاصرة تحقيق لنبوءة الكتاب المقدس، والتزام من الله. وتؤكد بعض تفسيرات الإسخاتولوجيا، أو علم الأمور الأخيرة المسيحي (دراسة نهاية الزمان) على أن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة مقدمة لعودة المسيح، وهي وجهة نظر لاهوتية إنجيلية شعبية، تركز بشكل كبير على دور إسرائيل في نهاية الزمان. ويعتقد الكثير من الإنجيليين أن أولئك الذين يباركون إسرائيل سوف يتباركون، وأولئك الذين يلعنون إسرائيل سوف يُلعنون، وهو مكون متأصل في نصوصهم المقدسة.
يحرص المرشحون للانتخابات الرئاسية الأمريكية على تقديم فروض الولاء لحكومة تل أبيب قبل ترشحهم أو أثناء الحملات الانتخابية التمهيدية. الرئيس بايدن، الديموقراطي المتهم بتقدميته وعدائه للرب من قبل خصومه المحافظين، يتحول إلى ناسك في محراب الإنجيليين، وجورج دبليو بوش قام بزيارة إسرائيل في أواخر عام 1998م، وبينما كان ينتظر ترشيحه للرئاسة عن الحزب الديمقراطي، قام السيناتور اليساري باراك أوباما من ولاية إلينوي بزيارة إسرائيل، وحظيت الزيارة بتغطية إعلامية كبيرة. إنها تقاليد ثابتة عند الساسة الجمهوريين والديموقراطيين، سواء منهم المحافظون أو التقدميون.
لقد تخلص العرب من أهم سلاح ردع في وجه الحرب الهجينية، متعددة الفاعلين، التي تستهدف وجودهم، وإن الظروف المحيطة تقدم دعوة مفتوحة للشعراء العرب المعاصرون لنظم قصائد الرثاء على غرار قصيدة أبي البقاء الرندي.