د. محمد عبدالله الخازم
متجاوزاً تفاصيل العمل الميداني، سأركز - وفق المساحة المتاحة - على عرض مفاهيم أساسية في التعليم والمناهج. وجود منطلقات فلسفية/ فكرية يعد حجر أساس في تشكيل رؤية أوضح لما نقوم به من أعمال وخطط تتسم بالمنهجية الموضوعية والعلمية.
1. التعليم يشكل المدخل لتنمية الأوطان وتشكيل الهوية، لذا لا غرابة أن نجده يتعرض للنقاش والنقد في جل دول العالم على مستوى الأنظمة، المناهج، المعلمين، المخرجات وغيرها. تتعدد حوله الآراء وتتداخل في تشكله العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية والمجتمعية وغيرها، لا توجد وجهة نظر أو نظرية واحدة، يقبلها الناس لحل جميع مشاكله. لذلك، علينا قبول نقد التعليم ونقاش ما يطرح من أفكار حوله دون اسقاطات أو حساسية أو(شخصنة) تسهم في إخفاء العيوب. كتم الأصوات الناقدة أو خفوتها وغياب حماسها يشكل حالة غير صحية.
2. التعليم ليس منتجا صناعيا، له مدخلات وخط إنتاج ومخرج يمكن قياسه بالعد والمتر والميزان. هذا يعزز المطالبة بالتعامل مع التعليم ودعمه كمنتج فكري وليس صناعيا أو تجاريا تقليديا. في المصنع تستطيع العمل بنظام (الورديات) لتزيد الإنتاج وتقلل التكاليف، لكن في التعليم الوضع مختلف؛ جميع الأطفال يجب أن يكونوا في المدرسة خمسة أيام في الأسبوع في وقت واحد وليس بنظام (الشفتات) المستخدم مع عمال مصانع.
3. التعليم العام ليس مسؤوليته تخريج مهنيين، حرفيين أو تجار وليس مسؤولا عن البطالة، بل التأسيس المعرفي والسلوكي والأخلاقي للإنسان بالدرجة الأولى، أياً كانت مهنته أو وظيفته. طبعاً، يمكن غرس مفاهيم مهنية وغيرها من خلال مناهجة وطرق تعليمه، دون الإخلال بأهدافه الرئيسة. لنتذكر، مهما بذلت في صنع رجل أعمال أو قائد فسيكون فاشلاً بدون قدرات أخلاقية ولغوية وفكرية ونقدية علمية أساسية، ومهما بذلت جهداً في صنع تقني ماهر فإنه سيكون فاشلاً بدون معرفة أساسيات العلوم والرياضيات.
4. التعليم لا يمكن التعرف على أثر التغيير فيه خلال فترة قصيرة، يحتاج صبرا ووقتا للاستقرار والتعمق في التجربة. الدورة التعليمية تحتاج سنوات حتى نرى إنتاجها، مقارنة بمجالات أخرى مثل الصناعة. هي أساسيات يعرفها الفلاح في حقله، يتطلب الغرس سنوات قبل أن ينتج ويحكم على جودته، فما بالنا بصناعة الإنسان. انظر مثلاً، إعلان رئيس وزراء المملكة المتحدة -مؤخراً- حول خطته لإصلاح مناهج التعليم والتي ستمتد على مدى عشر سنوات، وانظر كم هي النقاشات والجدالات حولها قبل إقرارها.
5. التعليم العام حق للجميع وواجب إيصاله لكل فرد أياً كان موقعه، بشكل عادل وفرص متساوية للجميع. هذا ما تلتزم به بلادنا ضمن أنظمتها الرئيسة. القص والإقفال والعمل بنظام الفترات الصباحية والمسائية وتقليص نفقات البرامج والأنشطة أو توزيعها بشكل غير عادل، أياً كانت المبررات، قد يخل بالحقوق المنشودة. التعليم يقاس عائدة بالقيمة والأثر، لذا هو مكلف ويتطلب السخاء في دعمه. لا يمكن تدريس العلوم دون معامل مجهزة ومزودة باحتياجاتها بشكل منتظم وكاف، لا يمكن تخريج إنسان مثقف وناقد ومطلع دون مصادر معرفية ومكتبة مدرسية يتم تغذيتها بشكل دائم، لا يمكن تطوير النشاط دون توفر الأدوات والمقرات المناسبة، ولا يمكن بناء الشخصية بتقليص أوقات المدرسة، إلخ. شكل المبنى وحداثته ليس الأهم وإنما ثراء مكوناته ومحتوياته وقدرته على تكوين بيئة تعليم وأنشطة مناسبة.
6. التعليم قيم ويمثل رؤية الدولة لمجتمعها وشعبها ومستقبله. قيمنا الكبرى هي ما يشكل تطورنا الفكري ويعكس صورتنا ويبرز قوتنا الناعمة. التعليم بمكوناته، مناهجه، أساليبه، مقرراته، نشاطاته وسلوكياته يعد المساهم والمسؤول الأكبر عن القيم. المدرسة ليست مجرد مقرر وقاعة، بل مجتمع حيوي وبيئة وتنشئة.
- يتبع