د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
أما العنوان السادس الذي جاء في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) فهو (الإعراب فرع تصحيح النصوص أيضًا).
يقصد بالإعراب بيان وظيفة الكلمة في الجملة، والمشهور أن الإعراب فرع على المعنى؛ ولكن أستاذنا يرى أن ذلك ليس على إطلاقه، لأن الإعراب ليس دائمًا في خدمة المعنى فالعلاقات النحوية في النظرية النحوية على قدر من الشكلية اللفظية، كما أن نظرية العامل ليست دائمًا في خدمة المعنى، والإعراب محكوم بها، والتأويل وهو ميدان الإعراب كثيرًا ما يكون لرد النصوص المخالفة للقواعد لا لبيان معانيها؛ ولذلك ما قد يقال عن منزلة المعنى في التحليل الإعرابي هو من تحصيل الحاصل، وهو ما نجده عند نحويين مثل ابن جني وابن هشام. ومع ذلك يتحدث عن هذه المنزلة؛ لأن العلاقة بين الإعراب والمعنى غامضة؛ ولأنه أراد استكمال الحديث عن المعنى في المكونات الأساسية للنظرية النحوية والإعراب إحداها؛ ولأنه على الرغم من أن الراجح في الإعراب هو ردّ النصوص المخالفة للقاعدة نجد من يصر على أن الإعراب فرع على المعنى، مع أنها «ليست صحيحة مطلقة» ص77، ومع ذلك كما يقول يرددها بعض المحدثين فمنهم من يرى تعدد أوجه الإعراب مرده إلى المعنى ومنهم من قال إن قضايا النحو تعين على فهم المعنى. وهو يرجح ما يرجح وذلك «أن الإعراب قد يهدي إلى المعنى، وليس العكس» ص79، ويشير إلى من يذهب إلى أن بين الإعراب والمعنى علاقة جدلية، فقد يقال إن الإعراب يسبق المعنى لأنه الدال عليه، وأن المعنى يسبق الإعراب لأنه لا إعراب دون فهم المعنى.
ويقفنا عند قول خليل أحمد عمايرة حول تداخل مفهومين: الإعراب فرع المعنى، والمعنى فرع الإعراب، ويبين أن النحويين رغم قولهم الإعراب فرع المعنى انصرفوا إلى الإعراب، وصار النحوي يوجه الكلمات حسب علامات الإعراب مستحضرًا الأبواب التي تشترك في العلامة ليوجه المعنى انطلاقًا من هذا، وهكذا صار الإعراب وهو فرع المعنى هو الأصل الذي يتفرع عليه المعنى. وينبه العمايرة إلى أن كتب إعراب القرآن تتعدد فيها أوجه إعراب الكلمة الواحدة، والأمر «لا يقتضي هذا ولا ذاك لو لم تعكس المقولة الإعراب فرع المعنى لتصبح الإعراب أصل المعنى» (ص81، ونص عمايرة في «المسافة بين التنظير النحوي والتطبيق اللغوي، ص221). وفي نظري أن من أكثر المحدثين اطراحًا لفرعية الإعراب على المعنى تمام حسان الذي سبك بيتًا لا معنى لألفاظه وأعربه، قال في (اللغة العربية معناها ومبناها، ص: 183):
قَاصَ التَّجِينُ شِحَالَه بِتَريسِهِ الـ ... فاخِي فَلَمْ يَسْتِفْ بِطَاسيةِ الْبَرَن
وقال تمام في (ص: 184) «ولو كان الإعراب فرع المعنى الدلالي ما استطعنا كذلك أن نعرب قول المجنون بن جندب:
محكوكة العينين مَعطـاء القفا
كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شراك أعجفا
كأنمـا ينشر فيه مصحفـا»
ويختم أستاذنا قوله (ص81) بأمرين «أولهما أن اختلاف مواقف المعنيين منها يشي بأن العلاقة بين المعنى والإعراب خاصة، وبينه وبين النحو عامة ليست على درجة كافية من الوضوح، والثاني أنها مقولة ليست صحيحة على إطلاقها؛ لأن الإعراب هو الذي يوضح المعنى أحيانًا لا العكس، ولأن الإعراب يهدف أحيانًا... إلى ردّ النصوص المخالفة لأصول النحاة وقواعدهم إلى هذه الأصول والقواعد، مما يسمح بالقول: إن الإعراب أحيانًا فرع تأويل النص ورده إلى حمى القاعدة فقط، وهذا ما يفهم مما قاله في هذه البابة كل من ابن جني وابن هشام الأنصاري».
ويمكن القول إن الأصل أن يكون الإعراب فرعًا على المعنى؛ لأن الإعراب حكم والحكم على الشيء كما يقول الأصوليون فرع على تصوره. ولذلك قد يكون المعنى هو الفيصل في الإعراب كما جاء في (شرح المفصل لابن يعيش، 1/ 248)
«بَنُونَا بَنُو أبْنائنا وبَناتُنا
بَنُوهنّ أبْناءُ الرِّجال الأباعِدِ
ألا ترى أنه لا يحسُن أن يكون «بنونا» هو المبتدأ، لأنه يلزَم منه أن لا يكون له بنون إلا بَنِي أبنائه، وليس المعنى على ذلك، فجاز تقديمُ الخبر هنا مع كونه معرفة لظهورِ المعنى وأمْنِ اللَّبْس».
والقول بتعدد أعاريب اللفظ قد يهبه موقعه في التركيب الذي يجعله محتملًا غير إعراب، ولكن كل إعراب إنما سببه المعنى الذي يلائمه. قال تعالى (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) [8- نوح]، فهم سيبويه أن نوحًا دعا قومه مجاهرًا بدعوته، ولذا أعرب (جهارًا) حالًا وإن كان لفظه لفظ المصدر فهو مؤول به، وأما الكوفيون ففهموا أنَّ هذا من بيان نوع الفعل، فالمصدر هنا مفعول مطلق، والأخفش والمبرد فهما ما فهمه سيبويه ولكنهما اختلفا عنه في التقدير، فسيبويه عد الحال مفردة، وأما هما فعدّاها جملة بتقديرهما فعلًا ناصبًا للمصدر والجملة من الفعل والمفعول هي الحال. (انظر: ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 3/ 1570). ولكنا مع ذلك لا نخالف أستاذنا وغيره في أن الإعراب قد لا يكون فرعًا على المعنى، كما في أمثلة الاشتغال والتنازع ونحوهما.