د.نادية هناوي
يعد الأمريكي واين بوث(1921-2005) مثالا نموذجيا للناقد الذي يتخذ من مواطنه ستانلي هايمن مرجعا نظريا، فطريقته في التعامل النقدي مع نظرية السرد هي كطريقة هايمن تقوم على أساس قرائي فيه الناقد متلق وقارئ، أما المؤلف فمنتج وذات ضمنية للسارد. واتخذ من القصدية والموثوقية دعائم بهما يؤكد أن الواقعية هي القاعدة التي قام عليها السرد في العصر الحديث. وليس صدفة أن يكون تركيزه على المؤلف والقارئ بهذه الأهمية؛ فالسرد القديم أعطى لهما أهمية في تقاليده التي قامت على قاعدة اللاواقعية. وبهذا يكون واين بوث قد مسك عصا السرد من الوسط، فمن جانب استعاد أصلا من أصول السرديات الكلاسيكية، ومن جانب آخر فتح أمام مدرسة النقد الجديد مسارا جديدا يميزها عن المدرسة الفرنسية التي استبعدت المؤلف وأهملت القارئ إبان المرحلة التي ألف فيها واين كتابه(بلاغة الفن القصصي) أي ستينيات القرن العشرين كرد فعل على تنظيرات البنيوية السردية، يقول بوث:( إن مؤلفا في ذكاء جينيت يتركنا في الظلام تماما عندما يتكلم عن نوع العالم الخيالي الرئيس الذي يعرضه السرد).
وقد حمله اهتمامه بالمؤلف صوتا وحضورا على تأكيد ما كان لهما في معظم الأعمال القصصية التراثية من نظام وتقاليد وصفها بالعظيمة، وعن ذلك قال:( أتمنى أن أوضحها أكثر وأكثر.. فإن تقاليد عظيمة لا حصر لها من الأشكال والأحجام مبنية على مواصفات عالية متباعدة جدا اكتشفت وأهملت بسرعة مذهلة، لقد بدأت الرواية كما يقال على يد سرفانتس وديفو وفيلدنج وريشاردسون وجين اوستن أو ربما هوميروس ولقد ماتت الرواية على يد جويس وبروست).
وإذا كانت أعراف الفن القصصي في القرن التاسع عشر توجب وجود فجوات وأن يتدخل المؤلف في السرد، فإن ذلك كله تغير في القرن العشرين وصارت المواصفات المطلوبة في العمل الفني ـكما حددها بوث - تتمثل في:
1 ) أن تكون علاقة المؤلف بتصوير الواقع أمينة بوجود ذات ثانية له كمؤلف ضمني( أنا العمل القصصي).
2 ) أن يكون المؤلف حياديا غير منحاز إذ( يجب على المؤلف توخي الموضوعية).
3 ) أن يزود النص القارئ بالأسئلة.
4 ) أن يضيف النص للواقع الوهم الواقعي.
5 ) أن يكون الراوي موضع ثقة عندما يتكلم بالنيابة عن أوعندما يتصرف بالتطابق مع مقاييس العمل.. وغير ثقة عندما لا يفعل ذلك.
إن هذه المواصفات هي مستجدات طرأت على السرد فأصابت المؤلف بالبلادة وصار يتصف بسبب الموضوعية بالشعور المتصلب غير المتعاطف تجاه شخوص وحوادث القصة.. يظل حياديا لا يشعر مع أوضد أي شخصية من شخوصه وفي الوقت نفسه. وانطلاقا من أهمية السرد في الحياة عارض واين بوث (أولئك الذين يدينون الفن القصصي القديم بسبب مخالفته لبعض القوانين العامة والغامضة التي اخترعت في الأيام الحديثة وما زلت أود أن أعارض صانعي القوانين) فوضع قواعد بها يستعيد السرد «تقاليده العظيمة» ومثل بنماذج من قصص القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومن هذه القواعد ما يأتي:
1) أن( الفن الحقيقي يتجاهل الجمهور والفنانون الحقيقيون يكتبون لأنفسهم)
2 ) أن للمؤلف أن يعلق وأن يكون ممسرحا من خلال الراوي، و( أن كلا من الرواة الثقة وغير الثقة يمكن دعمهم أو مغالطتهم من قبل رواة آخرين: جيلي جيمس في قصة فم الحصان وهندرسون في رواية بيلو أو يمكن دعمها أو تعميقها السيد بلانتري والصوت والغضب. بعض الأحيان يكون من المستحيل تقريبا استنتاج إذا ما كان الرواة على خطأ أو إلى أي درجة يكونون عرضة للخطأ).
3 ) أن يستعمل المؤلف (التعليق) فيقوم السارد بـ( إخبار القارئ عن الحقائق التي لا يستطيع أن يتعلمها بسهولة) أو يعلق على الصفات الأخلاقية والعقلية للشخصيات فيؤثر على وجهة نظر القراء عن الأحداث التي تقوم بها تلك الشخصيات. وبالشكل الذي يبلور مقدرة القارئ على الحكم. وأما التعمية فعكس التعليق وفيها يبتعد المؤلف عن السارد.
4 ) أن تكون (جميع الروايات الجيدة غير واقعية ثم يجب على جميع المؤلفين أن ينصاعوا لرغباتهم الذاتية وأن يتخلوا عن حلم الموضوعية الأحمق والمستحيل).
وعلى الرغم من حصافة هذا النقد الذي قدمه بوث، فإنه عمليا لم يمثل عليه، ولا حلل أعمالا كلاسيكية اتبعت تقاليد السرد القديم في تصوير الواقع ومركزة القارئ وحضور المؤلف كحكاء. وطبيعي ألا ينمذج لأنه يعلم أن ذلك يستدعي منه الوقوف عند المرويات التراثية الشرقية وبخاصة العربية والوقوف عندها يعني الإقرار بعالميتها وهو ما يتعارض مع ما يؤمن به النقاد الغربيون من تفوق الغرب وتبعية الشرق له.