د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تقي الدين المقريزي عالم من علماء القرن التاسع الهجري، ولد وعاش في مصر، التي قدم إليها والده لتقلد بعض الوظائف، فأحب الفتى تقي الدين مصر التي ترعرع فيها، و ألف جل مؤلفاته عن تاريخها، ومفاتنها، وتضاريسها، ونهرها العظيم، كما كتب عن آلامها، ومواجعها، ومجاريها، وما لحق بها من خراب عبر التاريخ، اتصل بالظاهر برقوق، وابنه فرج، وبعض النافذين من حكام عصره، وكان موضع تقدير منهم، لكنه فيما يبدو كان حكيماً يحاذر في علاقاته معهم، وقد تميز بالتواضع وحسن الخلق، وعفة اللسان، والبعد من النفاق، مع المسايرة والمجاراة، سواء مع الحكام أو مع العامة، ومن ذلك أنه ولد من أم مصرية والدها عالم على المذهب الحنفي، بينما كان والده حنبلي المذهب، فكان في أول أمره حنفياً، وعندما رأى أن العامة في مجملهم يعتنقون المذهب الشافعي أصبح شافعياً، غير متعصب لمذهب، إلا أنه يميل إلى السلفية في الابتعاد عن التوسل، وربما أن ذلك قد أخذه من والده الحنبلي.
تولى القضاء، والإنشاء، والتدريس، والخطابة، والحسبة، كل على حدة في فترات متفاوتة، ولاشك أن قربه من السلطان، جعله مستقراً مالياً، لكن دفع ثمن ذلك قلة الوقت المتاح للتأليف، وقد كان توليه الحسبة في القاهرة، وما حولها شمالاً، جعله يكون أقرب إلى معرفة أحوال الناس، وحركة السوق، وأدواته، والعوامل المؤثرة فيه، كما عرف عن تداول العملة، وضعفها وقوتها، وقد خرج بنظرة أصبحت نظرية في العصر الحديث، وهي أن العملة الأقوى تزيح العملة الأضعف، مهما كانت العوامل الدخيلة على حركة السوق، وكأنه يتحدث عن سوق العملات في عصرنا الحاضر. وتحدث عن الغلاء، وسوء التدبير، والمستوى المعيشي للشعب في زمانه، والفقر السائد، وذاكراً أن انخفاض المستوي المعيشي والفقر، يعود إلى سوء التدبير، وليس الغلاء فقط.
ألّف أكثر من مائتي مجلد وفي الغالب فإن المكثر تقل إجادته، وقد رأى السخاوي وهو أحد تلاميذه أن بعض نقله تعوزه الدقة، لكن هذا دأب السخاوي في القول عن معاصريه، ونماذج السخاوي كثيرة فيمن قبله ومن بعده وحتى عصرنا الحاضر، وفيما أرى أنه ينقل بعض المنقولات التاريخية غير المنطقية، ويعلق عليها بالشك، كما قال حول ما ذكر من أن الاسكندر قد شق مضيق جبل طارق وربط البحر الرومي ببحر الظلمات، وبنى بين الأندلس وبلاد البحر جسراً، وذكر أن ذلك المضيق قبل الأسكندر بكثير، لكنه أحياناً أخرى ينقل الأساطير ويجعلها من التاريخ دون تعليق، كما ذكر عن مسمى مصر وأنه اسم أحد أحفاد نوح وهو مصر بن بنصر، وكذلك ما يذكر عن النيل وغيره، ويمكن تجاوز ما يذكر من مبالغات حول مصر لأنه محب لها، ومن الحب ما قتل، والحب يمحو الزلل.
ونأتي على نظرته لفصل الخريف نقلا عن بن قتيبة، فيذكر أنه إذا دخل فصل الخريف هبت الرياح، وحل البرد، وتساقطت أوراق الشجر، وجفت العيون، وزال إخضرار العشب إلا في مصر، وأصبحت الأرض كعجوز كهلة أدبر عمرها، وزالت نضارة شبابها، وفيه يتم تخزين العشب، و تدرس الحبوب، وينتهي قطف الثمر، لكن ابن معقل المهلبي الحمصي يقول غير ذلك، حيث قال:
لله فصل الخريف المستلذ بِهِ
برد الْهَوَاء لقد أبدى لنا عجبا
أهْدى إِلَى الأَرْض من أوراقه ذَهَبا
وَالْأَرْض من شَأْنهَا أَن تهدي الذهبا
وقال أيضاً:
خُذ فِي التدثر فِي الخريف فَإِنَّهُ
مستوبل ونسيمه خطَّاف
يجْرِي مَعَ الْأَجْسَام جري حَيَاتهَا
كصديقها وَمن الصّديق يخَاف
وتقي الديمن المقريزي عاش في دمشق وعمل بها بعد أن توثقت علاقته مع الأمير يشكش، وكان محل احترام هناك، وعرف خريفها وكيف يعيش الدمشقيون فصل الخريف وبرودة الشتاء التي لم تكن كما هي في القاهرة، ومن المعلوم أن الشام غنية بأشجار الفاكهة التى تتساقط أوراقها في الخريف، بعد جني ثمارها، وهذا غير مماثل لما هو في القاهرة التي عاش بها، وتأقلم مع طقسها المعتدل، دون تطرف، ولكن كان حبه الأول والأخير هو مصر والقاهرة بالذات، وذهب إلى الحج وبقي في مكة نحو خمس سنوات، وعاش خريف الحجاز، وحر الصيف، وقلة المطر، وخلوها من الأنهار، ولهذا فإنه عندما يكتب عن الجزيرة العربية فإنه يكتب عن مشاهدة في بعض الأحيان، ووصف لما يراه و نقل مما يسمعه، ولحبه لمصر عاد مرة أخرى وبقي هناك مكباً على التأليف بعد أن ترك العمل الحكومي، أو تركه العمل لسبب أو لآخر.
بقي أن نقول إنه يشتكي الدهر، كما شكاه غيره، لا سيما في نهاية عمره، ويعتذر للقراء عن الهفوات إن وجدت، فالعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل، والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل ، ويقول شعراً:
يعاندني دهري كأني عدوّه
وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
إن رمت شيئا جاءني منه ضدّه
وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني