د. عبدالحق عزوزي
وأخيراً تم الاتفاق حول إصلاح نظام الهجرة في أوروبا خلال قمة تكتل الدول السبع والعشرين التي عقدت منذ أيام في غرناطة الإسبانية؛ ويهدف النص إلى تنسيق استجابة مشتركة في حال تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي، كما حدث أثناء أزمة اللاجئين 2015-2016. ولكن رغم هذا الاتفاق فإن دولاً مثل بولندا والمجر أبديتا معارضتهما للاتفاق وترفضان الإملاءات التي تأتي من بروكسل وبرلين؛ فرئيس الوزراء البولندي يرفض فرض نظام «لتوزيع المهاجرين غير الشرعيين» على بلاده، قبل عشرة أيام من الانتخابات التشريعية في بلاده. وذهب نظيره المجري فيكتور أوربان إلى أبعد من ذلك في انتقاداته بقوله: «إذا تم انتهاكك باسم القانون، وأرغمت على قبول شيء لا يعجبك، فكيف يمكن التوصل إلى تسوية أو اتفاق؟ هذا مستحيل».
وموضوع الهجرة كما أشرنا إلى ذلك في مقالات هاته الجريدة الغراء، هو من أحد المواضيع الشائكة بين الدول السبع والعشرين، في أعقاب التدفق الأخير للمهاجرين إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة ليحيي من جديد الحاجة السريعة لاستجابة أوروبية واسعة.
كما أن قضية الهجرة تشكل أكبر عقبة ليس فقط في قياس باروميتر شعبوية الحكام، ولكن أيضاً في مصير الحكومات، ونحن نتذكر عندما استسلمت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، لضغوط حلفائها المحافظين، ووافقت على الحدِّ من عدد اللاجئين الذين تستقبلهم ألمانيا إلى 200 ألف لاجئ سنوياً. ولطالما ضَغَطَ حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري، وهو الحزب الشقيق لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي كانت تتزعمه ميركل، من أجل وضعِ سقفٍ لعدد اللاجئين، لكن ميركل قاوَمَت بفشل هذا الضغط، وأصبحت بذلك مسألة الهجرة وكيفية التعامل معها من أكبر العوامل المحددة لمستقبل الإدارات والحكومات والأحزاب في أمريكا وأوروبا.
وهناك في هذا الباب حقائق مؤلمة وأرقام مرعبة قدمتها تقارير الأمم المتحدة الأخيرة بخصوص حركة المهاجرين السريين واللاجئين في مناطق عدة بالعالم كما هو الحال عبر البحر الأبيض المتوسط؛ وتشير هذه الأرقام إلى ارتفاع مأساوي في عدد الوفيات فاق الـ 130 بالمائة مقارنة بالسنوات الماضية، فاضحت المياه المتوسطية مقبرة للمهاجرين القادمين من إفريقيا والدول العربية والشرق الأوسط؛ وفي الوقت نفسه، زاد عدد الأشخاص الذين حاولوا العبور بحراً من شمال إفريقيا إلى أوروبا في ستة أشهر الأولى من هذا العام بنسبة 58 بالمائة.
كما أن المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط عبر بلدان مثل ليبيا، فإنهم يتعرضون لأساليب متنوعة من العنف كالاختطاف والتعذيب والابتزاز... والمحاولات الأوروبية للقضاء على الهجرة من خلال تعزيز الحدود الوطنية وتعزيز مراكز الاحتجاز خارج حدودها تدفع راغبي الهجرة السرية إلى أيدي المهربين ليجدوا أنفسهم في قوارب تقودهم عبر البحر الأبيض المتوسط.
اتفقت إذن دول الاتحاد الأوروبي الأربعاء على لائحة تنظيمية تنشئ آلية تضامن إلزامية بين الدول الأعضاء في حال واجهت إحدى هذه الدول «وضعاً استثنائياً» مرتبطاً بوصول «أعداد كبيرة» من المهاجرين إلى حدودها.
واللائحة التي تنص أيضاً على نظام ينتقص من إجراءات اللجوء التقليدية ويوفر قدراً أقل من الحماية للمهاجرين، خضعت للتسوية لتجاوز بعض التحفظات الصادرة من ألمانيا وإيطاليا.
والإجراءات المجحفة هاته المبنية على ثلاثية التعامل مع الهجرة غير الشرعية «على الفور» «والحزم» «وتكثيف الرحيل» ليست في مصلحة المهاجرين ولا في مصلحة «أنسنة الهجرة» عبر المتوسط وفي العالم؛ وهذا ما يمكن أن نفهمه من خلال تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني التي عبرت على هامش هذا الاتفاق: «إن تصور أوروبا وطموحاتها في مسائل الهجرة تتطور نحو خط أكثر واقعية فيما يتعلق بمسألة الشرعية والرغبة في محاربة المتاجرين بالبشر والرغبة في وقف الهجرة غير الشرعية».
إن المشكلة الكبرى اليوم أن الدول الأوروبية تعسكر حدودها ولا تبالي بحقوق المهاجرين ولا بإنقاذ المهاجرين عبر البحر وضمان وصولهم إلى البر؛ ونحن نعلم أنه من الواجب إنقاذ الأشخاص المعرضين للخطر في البحر من دون تأخير، هذه قاعدة أساسية تدرس للطلبة في مادة القانون البحري الدولي؛ ولكن هم كل دولة هو عسكرة حدودها براً وبحراً لمنع وصول المهاجرين غير الشرعيين؛ والاتحاد الأوروبي يتفنن في وضع قوانين وإجراءات صارمة لإيقاف زحف المهاجرين غير المرغوب فيهم... وأقول هنا «غير المرغوب فيهم» لأنه عندما تكون بعض المجالات تعرف نقصاً في الكفاءات، فإن المهاجرين الذين يتوفرون عليها يصبحون مرغوبين فيهم كما هو شأن القطاع الصحي.