د. محمد بن إبراهيم الملحم
مؤخراً، ارتفعت ترندات ما يسمى بـ»عتق رقبة» وقد نصت الشريعة على أن دية القتل العمد واجبة على القاتل وليست على العاقلة كما هي دية الخطأ بينما نرى في هذه الحملات كل القبيلة قد اجتمعت وحشدت أموالها لتفدي ابنها المعرض للقصاص، وثالثا لا يساورني شك ولا يداخلني وسواس أن العفو من شيم الكرام وأنه مظنة مغفرة الله للعبد الذي يعفو ويرجو ما عند الله، ولا أتردد لحظة في أن أدعو أحدا فقد أحد أبنائه في حادثة قتل خطأ أو شبه خطأ أن يعفو عمن تسبب في موته، ولكني سأتوقف عندما يكون هلاك الابن بسبب قتل متعمد أو متهور (ولا فرق بينهما)، وأحتاج أن أوضح عدة جوانب هنا فالقتل شبه العمد هو ما يقصد فيه الجاني الفعل، ولكنه لا يقصد القتل. فمثلا هو بقصد ضرب المجني عليه أو جرحه، ولا ينوي قتله ولكنه أخطأ في تقدير قوته أو قدرة المجني عليه على التحمل، فأحدث به الوفاة، وهذا التوصيف لا يؤخذ من الجاني وإنما ممن رأى الواقعة وشهد عليها، وفي عصرنا هذا أصبح بإمكان القاضي نفسه أن يرى الواقعة مصورة في مشاجرات الشوارع التي تفور فيها دماء الحمية والدفاع عن الكرامة «الوهمية» وتنطلق فيها «الرجولة» المصطنعة بشكل وحشي مبالغ فيه، ليقضي أحد المتشاجرين على الآخر بصورة واضحة المعالم، وسيحكم القاضي عندئذ أنه قتل عمد حتى لو ادعى الجاني أنه شبه عمد وأنه لم يقصد قتل الآخر، وأنا أقول مع هذا الجاني أنه ربما لم يقصد وقت الطعن والضرب أن يجهز على خصمه بالموت لكن من يقدم على هذه الدرجة من القسوة والوحشية في التعامل (كما شاهدنا جميعا في مقاطع هذه المشاجرات المؤذية) سواء هو بنفسه منفردا أو بطلب من «يفزع» معه للسيطرة على الخصم فهذا الطلب بحد ذاته وتلك الوحشية في الضرب والإيذاء كلها تحمل دلالات «تعمّد» القتل.
ولكي أوضح أكثر ولا يكون الكلام متناقضا، فإن من يسلك هذا المسلك في الشجار العنيف وتكون لديه هذه السلوكيات والتصرفات لم ينشأ ذلك في وعيه من فراغ بل هو شخص دأب على تأجيج نفسه وشحنها بمبادئ القتل والقضاء على خصمه واستمتع كثيرا بمشاهدة العنف ودرّب نفسه وحرَف فطرته حتى وصلت إلى هذه الجرأة الجرمية فارتقى إلى درجة المجرمين وإن لم يكن محترفا القتل كغيره من المأجورين للإجرام والقضاء على الآخرين، ومن فعل ذلك بنفسه وجهزها لمثل هذه اللحظة فهو قد أعد داخله مجرما صغيرا يكبر مع الزمن حتى تأتي اللحظة المناسبة والتي يطلق فيها ما اختزنه من شحنات القتل (سواء شعر بذلك أو لم يشعر به بشكل صريح) وتتم بذلك حلقة الإجرام التي يستحق بموجبها أن يطلق عليه لقب «مجرم» بجدارة، فهو قاتل Killer (هذه المفرد الخطيرة التي تتوج الأفلام والألعاب الإلكترونية الكبرى التي يجري وراءها شبابنا اليوم مع الأسف)، إذن نحن أمام قاتل يتحرك بيننا في صورة شخصية مسالمة يقبل رأس أمه وأبيه كل يوم ويسمع منه الكلام الجميل و»العلوم الغانمة» بينما العقل الباطن لهذه الشخصية «العادية» ينتظر الوقت المناسب ليقضي على من يتشاجر معه ويوقعه في جريمة القتل، التي يستحق عليها العقاب والقصاص منعا لانتشار هذه الآفة المدمرة للمجتمع، أعني آفة القتل، وهي أخطر من المخدرات والموبقات فتلك خطرها على متعاطيها فقط أما هذه الآفة فتهلك الآخرين وتهلك صاحبها، ولكن مع الأسف فإنها قد تنتشر بشكل خطر نتيجة ممارسة «عتق الرقبة» التي بدأت الحديث عنها وسأستطرد حولها لاحقا.
** **
- مدير عام تعليم سابقا