محمد سليمان العنقري
عالم اليوم تتناقل أخباره بسرعة فائقة في وسائل التواصل والإعلام الجديد عموماً مع كم هائل من القراءات وبكافة الأصعدة سواء الاقتصادية أو السياسية أو الرياضية وكافة المجالات، فثورة الاتصالات والإنترنت والأجهزة الذكية حولت كل مستخدم لها لصاحب رأي في ما يحدث وهذا حق له أن يبدي رأيه أو يعلِّق على أي قراءة، فالتفاعل من المتلقي هو سمة الإعلام الجديد وفي المنطقة العربية تتوالى الأحداث منذ عقود ورغم أن الإعلام سابقاً كان محصوراً بالوسائل التقليدية إلا أن ما كان يطرح فيه أكثر مهنية ودقة حتى لو اختلفت مع الآراء التي تطرح فيه وذلك لأنها آراء تصدر عن مختصين وتخضع للمراجعة المهنية، فالمطبخ الإعلامي كان دقيقاً في ما ينشره للمتلقين حتى لو اختلف الجميع مع ما يقدم.
لكن في الإعلام الجديد الطرح العشوائي هو السمة السائدة ولا يخضع لأي معايير مهنية ويكتب بدافع البحث عن السبق في القراءة ليس أكثر فحب الاستعراض أصبح ظاهرة تتملك البعض ويعتقد أنه عندما يقع أي حدث فالجميع ينتظر رأيه وعندما يخرج بما تجود به قريحته تجد تضخيماً للأحداث ويحبك سيناريو هوليودي ويدخل تفصيلات على المشهد تعتقد من خلالها أنك تشاهد فيلم «اكشن» وليس سياق أحداث لها جذور وتراكمات مهدت لظهورها أي أن كثيراً مما يحدث بالعالم لم يسقط على البشر بالبراشوت فأحداث غزة الحالية هي نتيجة تراكمات ضغط الاحتلال الإسرائيلي والحصار وسياسات الإفقار والتجويع وغير ذلك من الممارسات التي لا تخفى على أحد، فالأرضية مهيأة لأن تنفجر الأوضاع في أي لحظة بين أهل غزة وإسرائيل وهي ليست المرة الأولى وإن كانت الأكبر من حيث الحجم والنوعية، وبعيداً عن الأبعاد لما يحدث وقراءتها إنما ما يلفت النظر وقبل أن تمضي ساعة على بدايتها انطلق قطار التحليلات للحدث في منصات التواصل الاجتماعي بكثافة ليست مستغربة في عالم الإنترنت لكن ما يطرح هو المثير للاستغراب، فبعضهم بشر برسم خرائط جديدة للشرق الأوسط ويتحدث عن تغيرات ستقع بأسلوب الأفلام التخيلية ناسياً أنه يقصد دولاً وشعوباً وكيانات تحريكها بالشكل الذي يتحدث عنه معقد ولا يوجد له أساس ومن قال إن هناك من يقف متفرجاً من الدول التي يذكرونها بأنها ستتأثر وكيف عرفت أساساً بهذه الخطط وأنت الفرد الذي مصادره لا تتعدى حدود قراءة مقالات أو تقارير تكتب من هنا وهناك وهي صادرة عن آراء فردية فهل أتيت بالسر الأعظم بينما دول بكل إمكانياتها لم تعرف ما تذكره!
فما يذكر من سيناريوهات للمنطقة كلها محض تخيلات أو أمنيات من كتبها بالصحافة الأجنبية وأبعد من ذلك قد تكون مقصودة لكي تنشر اليأس والإحباط بالمنطقة التي تغطي إعلامياً بمثل هذه التخيلات فالإعلام ليس وسيلة لإيصال الأخبار فقط وإنما سلاح أيضاً لا يقل فتكاً عن الأسلحة التقليدية لأنه قد تمرر فيه رسائل هدفها تصوير أن القوى الكبرى قادرة أن تقوم بأي عمل تريده وبالحقيقة أنهم لم يستطيعوا حل مشاكلهم بمجتمعاتهم أو باقتصادهم أو وقف جبل الديون السيادية الذي يتضخم بسرعة هائلة ويهدد بانهيار اقتصادي لدولهم أو بملفات سياسية دخلوا فيها طرفاً رئيسياً ولكنهم فشلوا في تحقيق أي نجاح يذكر والشواهد كثيرة فما تنشره بعض الحسابات بمنصة «X» تحديداً عن الأحداث السياسية كما هو الحال في غزة أو في حرب أوكرانيا تعتقد أن من كتبه هو المخطط للحدث أو أنه شارك بإعداده أو اطلع عليه بقدراته الخارقة، فالغريب أن دولاً بأجهزتها لم تصل أو تصرح أو تلمح لما يذكره البعض من شطحات تحليلية ولا لنصف هذه المعلومات التي يذكرها محللو وسائل الإعلام الجديد المندفعين بحب الاستعراض، فلم تسأل نفسك أيها المحلل كيف لك أن تضع تحليلات جلها أتت من مقالات وقراءات منشورة للجميع، ثم لماذا لا يسأل المتلقي نفسه من أين لفرد لا يملك أكثر من مشاهدة القنوات الفضائية أو قراءة صحف ومقالات وتقارير منشورة أن يرسم خريطة السياسة العالمية من على كرسي في غرفته وهو لم يمارس العمل السياسي وليس مطلعاً على مجريات الأحداث أياً كان نوعها، فهو لا يعمل بمراكز الفكر أو صناعة القرار لكن التفسير الوحيد غالباً هو الفراغ والاندفاع ما يحركهم بحثاً عن الشهرة والسباق نحو تصدر المشهد بكل حدث وبعد أن تنتهي الأزمة أو الحدث لا أحد يتذكر ما قالوه لأن الحياة مستمرة والناس ستعود سريعاً لأعمالها.
بعض التحليلات لها ضرر كبير ومن يطلقها لا يعي أثرها على المتلقي خصوصاً في الشق الذي يؤثّر على أسواق المال أو الاقتصاد عموماً فمن يطرح رأياً عن توقعه بهبوط حاد بالأسواق نتيجة قراءته لتحليل احتمالي أجنبي غالباً فقد يتسبب بخسائر لبعض الأشخاص الذين قد يتأثرون بما قرأوه عنك فرأس المال جبان وإذا لم يتحقق ما قاله هذا المحلل فمن سيعوّض من خسر بسبب بيعه لاستثماراته واتضح أن كل ما قيل هو مجرد رأي ذكره أحدهم من خلال قراءة لاحتمالات لا أساس متيناً لوقوعها فالتحليل موهبة تصقل بالتجارب والخبرات العملية العميقة والقراءات التاريخية والمعاصرة والقدرة على تفكيك المشهد وليس من خلال التأثر بالمشاهدات واقتباس أفكار الغير ومحاولة إعادة صياغتها لتبدو كأنها رأيك بينما في الواقع كل ما تذكره لا يمكن لك أن تتوسع فيه لأنك ناقل لما أعجبك فقط ليس أكثر دون تمعن بخلفية هذه الآراء أو أسبابها وكذلك النظر للتراكمات التي تؤثّر بالمشهد العام ويبقى على المتلقي مسؤولية أن يعرف بأن ما يطرح عليه هو رأي فرد ليس أكثر.