د. محمد عبدالله الخازم
الزيت على الأرض، قشر البصل متناثر على الطاولة، الفرن طاله الصدأ، الطباخ ومساعدوه ترتفع أصواتهم كل يلوم الآخر، اللوحة الإرشادية على الجدار لا أحد يقرأها، زحمة أناس دون وضوح الأدوار...إلخ. قد يكون كل ذلك في المطبخ، لكن في النهاية تخرج الوجبة أمام الملأ ويتم التصوير والاحتفاء. هكذا هي بيئات بعض الأعمال، تفتقد الترتيب والتقدير بين منسوبيها، يعانون الممارسات داخلها ويقومون بأعمال لا معنى لها، لكن الضيوف لا يرون أو لا يحاولون رؤية سوى ما يقدم لهم على طاولات أنيقة. ثلاثة عقود تنقلت فيها من مطبخ أعمال لآخر ولدي كثير من الحكايات، أستعرض الحديث منها.
قبل أن تغادر مطلوب منك إخلاء طرف، جميع المؤسسات تطلب ذلك، توقعته أمراً يسيراً، توقيعان أو ثلاثة أو أربعة وقد يستغنى عن ذلك بتفعيل التقنية. لكن ياللهول، فوجئت بأنه مطلوب أكثر من 40 توقيعاً، ربما 45 أو أكثر، لم أتابع العد. في صهيد جولاي كان مطلوباً مني قطع الشوارع والمواقف والساحات المكشوفة بغبارها وأرصفتها، بين مباني الجامعة والمستشفى ومركز الأبحاث لغرض حصر التواقيع من أقسام لا أعرف بعضها.
اقترح زميل، إكرام أحد موظفي الإدارة وتفويضه للقيام بالمهمة. من حسن حظي، أنا صديق صغار الموظفين وبكل تقدير يتنافسون في خدمتي، دون (إكرامية) خاصة، تم التنسيق بينهم وبدأت المهمة التي استمرت عدة أيام. أبلغوني، قسم المفاتيح يشير إلى أن لدي مفتاحاً لم يتم إعادته منذ خمسة عشر عاماً وهناك غرامة مقابل ذلك. كلمت الموظف المعني وكان لطيفاً، قلت سأدفع الغرامة إن أريتني الباب الذي نتحدث عن مفتاحه؛ تعلم بأنه كل يوم يهدم باب وتبنى أبواب فما يضمن لي بقاء ذلك الباب حتى عامنا هذا. رد علي؛ هذه ورطة، أنا أتعامل بالسجلات ولا علم لي بالأبواب والبوابات العالية منها والمشرعة وتلك التي يحرسها الحاجب. تبادلنا النكات وضحكنا فتم تجاوز غرامة المفتاح الضائع أو الباب الضائع، لا أدري أيهما ضائع.
وبعد أن غدت ورقة إخلاء الطرف غابةً من التواقيع والأختام، قيل لي هناك مقابلة المغادرة، أو ما قبل مغادرة الوظيفة. كنت أنتظر هذه الفقرة، متوقعاً أن تكون ممتعة بلقاء المسؤول الذي حلمت به يشكرني على سنوات قضيتها في المؤسسة، ولأن في (جوفي) كلاماً كنت أود قوله، لا سيما وأنا أغادر بضيقة خاطر ومزاج متعكر. هنا تتوقع لحظتين للتقدير؛ الأولى، الترحيب بك عندما تلج الباب لأول مرة والثانية، الشكر عندما تغادر. حظيت بالأولى.
في القسم المتخصص، قابلت موظفة (مستجدة) ناولتني نموذج أسئلة وبكل أدب اشارت إلى منطقة الجلوس؛ خذ راحتك يا دكتور ومتى انتهيت أخبرني. سألتها - طبعاً وأنت مودع ليس مهماً إن كان السؤال ذكياً أم غبياً- هل الجدية في الإجابة مطلوبة وأين يذهب النموذج بعد تعبئته؟ وأضفت، لا تقلقي المغادر يصبح غريباً وللغريب تحكى الحكايات الممنوعة. أجابت؛ الأمر متطلب (شكلي) لنثبت أننا نتبع أفضل الممارسات. وسؤال آخر، طالما هو نموذج وليس مقابلة حقيقية لم لا يكون إلكترونياً؟ أجابت؛ (نحن نعيش على الورق) أتريد قطع أرزاقنا؟
المهم، في النهاية خرجت حاملاً شهادة النجاة، تاركاً ورائي زحمة تفاصيل، طهاة وعمال تائهون وأرضيات حمدت الله أنني لم أتزحلق عليها. حكايات المطابخ كثيرة، وأسوأها تلك التي يجهل فيها القادة ويتألم فيها الطهاة. عزيزي قائد المؤسسة؛ رتب مطبخك واسمع صوت الكادحين فيه، يوماً ما ستنعكس فوضى المطبخ على صورتكم (اللامعة) في قاعات الولائم والفلاشات.