د. تنيضب الفايدي
ينشأ كلّ طفل ذكراً أو أنثى في مكان به منزله، بأيّ شكل كان ذلك المنزل، خيمة أو صندقة أو بناء، وكلّ حبّ للمكان يأتي تبعاً لحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المشرفة والمدينة المنورة (...اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد...) الحديث متفق عليه. وحيث إنّ كل موقع يولّد لدى كلّ من سكنه الذكريات والحبّ؛ لأنّ ارتباط أي كائن حيّ وعلى رأس القائمة الإنسان بموقع سكنه شيءٌ فطري، وكما هو معروفٌ فإن المنازل تذكي الحنين إلى الوطن وتجعل من يسكن بها أو سكنها وأصبحت أطلالاً يبكيها بعاطفة صادقة مشتاقة، وتشعل لهيب الشوق، وتؤجج الذكريات، وحبّ المنازل أو الديار هو بداية لحبّ الوطن بأكمله، فما أكثر من نثر الحبّ شعراً لمنازله أو دياره:
أولاً: المنازل والديار:
يتكرر البكاء على المنازل والديار لدى الشعراء والأدباء وتهيّج الأشجان:
إنّ المنازلَ هيّجت أطرابي
واستجمعت آياتها بجوابي
وقد تتغير مواقع المنازل وتصبح أطلالاً قال الشاعر:
دعاكَ الهَوى واستجهلتكَ المنازلُ
وكيفَ تَصابي المرءِ والشَّيبُ شاملُ
وقفتُ بربعِ الدَّارِ قد غيَّر البِلى
معالِمه والسَّارياتُ الهواطلُ
أسائِلُ عن سُعدى وقد مرَّ دونها
على حُجُراتِ الدَّار سبعٌ كواملُ
وها هو شاعر تذكّر المنازل وهي بعيدة عنه، لكن لمعان البرق أجّج الحنين إلى تلك المنازل:
سَما برقُ الجُمانة فاستطارا
لعلَّ البرقَ ذاك يحورُ نارا
قعدتُ لها العشاء فهاج شوقي
وذكّرني المنازل والدِّيارا
فلم أملك دموع العين مني
ولا النَّفس التي جاشت مِرارا
والبعد عن المنازل أو الديار يبلغ بصاحب تلك المنازل اليأس ولا تطيبُ حياته:
أبت بالشَّام نفسي أنْ تطيبا
تذكَّرتُ المنازِلَ والحبيبا
تذكرَّت المنازلَ من شعوبٍ
وحيّاً أصبحوا قُطِعُوا شُعُوبا
سَبَوا قلبي فحلَّ بحيث حَلُّو
ويعظُم إن دَعَوا ألا يُجيبا
وقال آخر وقد حنّت عواطفه إلى منازله وهو بعيدٌ عنها:
أحنُّ إلى تلك المنازِل كلما
غَدا طائرٌ في أيكةٍ يترنّمُ
بكيتُ من البَين المُشتِّ وإنني
صبورٌ على طعنِ القَنَا لو علمتُمُ
ثانياً: منازل ينبع:
عاش الكاتب صِباه في بعضها ويتذكّرها؛ لأنّ أطلالها تذكي العاطفة، وترقق الشعور، وترهف الحسّ، وتشتعل الألفاظ حباً وحنيناً، ويتدفق الخيال الذي تؤججه الذكريات، وكلما مرّ من هنا نَكَأَتْ الذكرياتُ جِرَاحَهُ وهيَّجَتْ أشواقَهُ وقلَّبَتْ عليه المواجِع:
كأنَّ صِبَايَ قد رُدَّت رُؤاهُ
على جَفْنِي المُسَّهَّدِ أو كأنِّي
ولكنّ حبّ طيبة وحبّ من اتخذها مهاجراً ومضجعاً قد صارَ مني وصرتُ منه:
أحبُّكَ في القنوطِ وفي التَّمنِّي
كأنِّي منكَ صِرْتُ، وصِرْتَ منِّي
أحبُّك فوقَ ما وسِعَتْ ضُلوعي
وفوقَ مَدَى يديَّ، وبُلوغِ ظنِّي
واشتاق كثيرٌ من الصحابة إلى موطنهم الأول مكة المكرمة حيث هاجروا منها، وتركوا أرضهم، وأموالهم، بل وأهليهم وليس هناك ما هو أشدّ مرارة على المرء من ترك وطنه ومسقط رأسه مكرهاً، فهذا سيدنا بلال رضي الله عنه كان عبداً لأمية بن خلف الذي تفنن في تعذيبه عندما أسلم حيث كان يطرح عرياناً على الحصى والحجارة الملتهبة، ويطوف به صبيان مكة أوديتها، وشوارعها، وجبالها، وذلك ليردّوه عن دينه وهو يردد «أحد ، أحد» وأكرمه الله بالثبات على دينه وبالهجرة إلى المدينة النبوية حيث سبقه إليها حبيبه صلى الله عليه وسلم، وعندما استقر بالمدينة اشتاق إلى مكة حيث قضى بها شطراً من حياته فهي وطنه، حنّ إلى أوديتها، وجبالها، وشوارعها، التي كانت يعذب بها واشتاق إلى أسواقها، ومنها أسواق مجنّة، وحنّ إلى جبالها ومنها شامة وطفيل وهذا الشوق دفعه إلى أن يتمثل شعراً:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل إردن يوماً مياه مجنّة
وهل يبدون لي شامةً وطفيل
إنه الحب الذي ارتبط بمواقع الصبا، مكة المكرمة، أم القرى، البلد الأمين، البيت الحرام، أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إنها مكان مولده صلى الله عليه وسلم، وفيها نشأ، وأوحي إليه، ومنها بدأت الرسالة... وبها أول بيت لعبادة الله وضع في الأرض، وحد الله بهذا البيت المسلمين حيث يستقبلونه في صلاتهم، ويحجون إليه من كل فج عميق، لذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة وعظمها... قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (96) سورة آل عمران. وأصبح قبلة أزلية للمسلمين:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (سورة البقرة الآية (144). لذا فإن مكة المكرمة في قلب كل مسلم ومسلمة، أما المدينة المنورة فهي مدينةٌ حببها الله تعالى إلى المؤمنين كحبّهم مكة أو أشد، وبارك فيها بدعائه محمد صلى الله عليه وسلم لها، قال صلى الله عليه وسلم: « اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدها».. متفق عليه. لذا فإن قلوب المؤمنين تحنّ إليها، وتهفو إليها حتى في البعد وهي مأرز الإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية في جحرها». متفق عليه.
ومع حبّه مكة المكرمة فقد أحبّ المدينة المنورة كحبّه مكة بل أشدّ، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على المدينة قال: اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً وكان يُسرع إليها إذا رأى جدران المدينة، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع ناقته وإن كان على دابة حركها من حبّه. رواه البخاري